بينما تُضيء شمعة التكريم العالمية للممرضين والممرضات، كأنما الكون يُصغي لِهمسِ الرحمة الذي يخترق صمت الألم، يغوص السودان في دهاليز حربٍ لا تعرف سوى لغة الدمار. حربٌ تطحن الأحلام تحت سنابك السلاح، وتذرُ المؤسساتِ أشلاءً، وكأنها جسدٌ نُزعت منه الروح. وفي قلب هذا العاصف، تَبرزُ كواكبُ من نورٍ ترفض أن تذوي: إنهم حُرّاس الحياة الذين يخيطون جراح الوطن بإبرة الأمل. • بين فَكّي المأساة: حين يُشرِق الإنساني رغم أنف الموت لا تحمل الممرضة السودانية سوى حقيبةً من قُصاصاتِ إرادة، ولا يحمل الممرض السوداني سوى قلبًا يَتسع لآهاتِ المهمشين. إنهم يُنادون الحياةَ في زمنٍ صار الموتُ فيه طقساً يومياً. بين أحياء الخرطوم المُنهَكة، حيث تُغتال الأحلام تحت وطأة القصف، يتحول كل ضمادٍ إلى قصيدة مقاومة، وكل حقنةٍ إلى ثورةٍ ضد اليأس. هم لا يفرّون من الموت، بل يسرقون الأرواحَ من بين أنيابه، وكأنهم يُذكّروننا أن الإنسان، حين يُحبّ، يصير أقوى من كل طبول الحرب.
• العسكر والإسلاميون: رقصةُ التنانين على جثثِ الضحايا ليس الصراعُ مجرد شجارٍ على سلطةٍ عابرة، بل هو ارتطامُ جبلين من الأكاذيب. جبلٌ يُسمّي نفسه "حامي الوطن"، وآخرُ يتخفى وراء رداء "الحُرّاس الدينيين"، وكِلاهما ينهشان جسدَ الوطن ذاته. إنه الزواجُ الكالح بين البندقية والخطاب المُزيّف، زواجٌ أنجبَ أيتاماً وجثثاً ومستشفياتٍ بلا سقوف. فمنذ انقلاب 1989، ظلّت المؤسسة العسكرية تُلاعبُ ورقة الإسلام السياسي، حتى انفجرت اللعبةُ في وجهِ الشعب فصار المواطنُ وقوداً لمعركةٍ لا ناقةَ له فيها ولا جمل.
أين "الوطن" الذي يتغنّى به العسكر، وأين "الشرعية" التي يهتف لها الإسلاميون، حين تَلِدُ امرأةٌ على قارعة الطريق؟ أين هم حين يُغلق المستشفى أبوابه لأنّ طائرةَ الموت حطّت على سقفه؟ إنهما يتقاسمان كعكةَ الخراب بينما الشعبُ يدفع الثمن: جوعاً، تشرداً، ودماءً تُسكب كالماء.
• الخلاصُ يأتي من حيثُ لا يتوقّع الطغاة في زمنِ الانهيار، تبرزُ إجابة السؤال الأزلي: من يملك حقَّ قيادة الوطن؟ ليست الإجابةُ بين ثنايا البيانات العسكرية المُنمّقة، ولا في خطاباتِ الميليشيات المُحمّلة بالوعود الكاذبة، بل تُجلجلُ في صمتِ الممرضة التي تسيرُ عشرات الكيلومترات لإنقاذ طفلٍ نازح. هي نفسُها الإجابةُ التي تهمسُ بها يدُ المعلم الذي يُعلّم تحت شجرةٍ بعد أن دُمّرت مدرسته، وتصرخُ بها الأمُّ التي تحوّلت إلى حقلِ إغاثةٍ في زمن المجاعة.
يوم التمريض العالمي ليس مناسبةً للابتسامات الرسمية، بل هو مرآةٌ نرى فيها وجوهَ من يستحقون التاج: أولئك الذين يرفضون أن يكون الوطنُ مجرد حكايةٍ مكتوبةٍ بدماء الأبرياء.
• نحو فجرٍ مدني: حين تُولد الدولة من رحم الألم لا يُبنى السودان الجديد بتبديلِ الزيّ العسكري، ولا بتبادل الأدوار بين مُختلفي الألقاب، بل بثورةٍ هادئةٍ تُعيد تعريف "الوطنية". وطنيةٌ لا تحمل سلاحاً إلا سلاحَ العلم، ولا ترفع شعاراً إلا شعارَ الكرامة الإنسانية. إنه الفجرُ الذي لن يُشرق إلا حين نُدرك أن الأبطال الحقيقيين هم من يمسحون دموعَ الثكالى، لا من يصنعونها.
اليوم، ونحن ننحني إجلالاً لأبطالِ الصفائح الطبية، نوجه رسالةً إلى سدنة الحرب: كم من دمٍ تُريدون؟ كم من جثةٍ تَكفي؟ ألم يَئن الوقتُ لِتترُكوا السودان يُولد من جديد، بعيداً عن صراخكم الذي لا يُنتج سوى الدمار؟
فهؤلاء الممرضون، بأيديهم المرتعشة من التعب، يكتبون أسطورةً لن تموت: أسطورةُ أن الحياة، رغم كل شيء، تستحقُ أن تُعاش.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة