كانت سماء دنفر/ كولورادو ملبدة بغيوم خريفية خلاّبة، وطقسها ينذر بأمطار غزيرة في ذلك المساء الجميل، بينما صوت فيروز الملائكي الطروب، ينساب برقة وعذوبة، في ارجاء ذلك المطعم العربي الشهير، باعثاً الامل والرجاء في نفسي المرهقة، ونافخاً روح النشاط في اوصالي ومفاصلي، المثقلة بما لا طاقة لها به، من هموم العمل ومشاقه.
ارتال الصحون في ازدياد مضطرد، مع ميلاد كل ثانية و دقيقة، وعليّ القيام بغسلها جميعاً، وقبل ذلك كله لا بد من تلميع الملاعق، والاشواك، والسكاكين، وتوزيعها بعناية ونظام على طاولات المطعم، تمهيداً لوجبة العشاء.
صندوق الطماطم، وكيس الخيار، ينتظرانني بلهفة وشوق، لإعداد السلطة. اما العجانة، فقد احتلت ركناً قصياً من المطبخ، مصدرةً صوتاً رتيباً، من اجل اعداد الخبز العربي .. كانت تصدر انيناً كأنه موسيقى تصويرية لمشهدي التراجيدي ذاك، أمّا الفرن فينتظرني بصبر نافد، فاغراً فاهه، ومتأهباً لتجهيز الخبز الحار، وصوت فيروز الملائكي يعلو ويطغى على انين العجانة الكئيب، وعلى كل ضجيج وصخب، مردداً: راجعين يا هوى راجعين يا زهرة المساكين راجعين راجعين يا هوى على نار الهوى راجعين
تذكرت في تلك الاثناء، ذلك اليوم الذي جئت فيه الى هذا المطعم، وكيف كنت سعيداً لدرجة الثمالة، إذ كنت محظوظاً بالفوز بهذه الوظيفة، خاصةً وانني لم اكن احمل اذن عمل في ذلك الحين. سلمني صاحب المطعم قائمة طويلة بالمهام المطلوب مني انجازها اثناء ساعات العمل. فغرت فاهي مندهشاً، وهممت أن اذكره بأن الشخص الماثل أمامه، مجرد انسان من لحم ودم واحساس، وليس رجلاً الياً او جنياً، لكن فرصة الحصول على عمل في تلكم الظروف الصعيبة الجمت فمي، ولا انسى كيف اردف تلك القائمة بشرط آخر، وهو التبسم في وجوه الزبائن في كل الظروف والاحوال، والذي يعتبر من الامور المهمة في هكذا عمل. في تلك الليلة تسمرت امام المرآة لساعة من الزمن، مدرباً نفسي على التبسم بدون سبب، فكانت النتيجة ان ظهرت ابتسامات جافة وباهتة، لأنها لم تكن من مستودع الصدق والحقيقة، بل من مواعين الزيف والخديعة، ولكم تملكني الضحك وأنا اجهد نفسي بتلك المحاولات البائسة الهزيلة.
صوت ماء منهمر بغزارة لم استطع تحديد مصدره، التفت مذعوراً، ناظراً تحت قدمي .. يا للهول، لقد سدّت حبات الارز حوض المغسلة، فتسربت المياه وغطّت معظم ارجاء المطبخ .. نظرات الطباخ ومساعده والنادل مصوبة نحوي .. إنها تمزقني كما الخناجر المسمومة. يا الهي!! ما من احد يمد لي يد المساعدة، ولا بد من معالجة الموقف بسرعة، والا اصبحت في خبر كان. هاتف يأتيني من اعماقي: الوقت كالسيف، فلتقطعه قبل ان يُقطع عيشك ايها المسكين .. أُرسل نظراتي المستجيرة صوب الساعة الحائطية، علّها تتوقف من اجلي ولو لبرهة من الزمن، غير أن عقاربها تصر على ان تمضي قدماً، غير آبهةٍ لنداءاتي المستغيثة .. هاأنذا قد أنهيت مهمة معالجة المغسلة ومسح البلاط، في زمن خرافي. التفت حولي عليّ انعم بنظرة اعجاب او تقدير، فلم ارَ غير أعين غضبى تنظر الي شزراً، وتطالبني بالمزيد من المستحيلات.
تجاوزت الساعة الآن، السابعة مساء بعشر دقائق، وصوت النادل بدأ يعلو في غضب، وصوت فيروز الملائكي يتردد في الانحاء باصرار والحاح: راجعين .. راجعين .. راجعين، بينما دوي الرعد يُسمع من البعد، وقطرات المطر البلورية تنزلق بخفر ودلال لتغسل زجاج النوافذ والابواب والارض، وتعجز عن غسل ما يعتمل بداخلي من فوضى وصخب، وارتال الصحون تزيد ولا تنقص، وصندوق الطماطم وكيس الخيار والعجانة في انتظاري بلهفة، والاصوات تناديني من هنا وهناك : أين الصحون يا مالك؟ أين الخبز يا مالك؟ أين ذاك وأين تلك يا مالك؟؟ رأسي توشك أن تنفجر، وعليّ في ذات الوقت أن اتشبث بالابتسامة، وأن اعض عليها بالنواجذ والانياب.
غُصّت صالة المطعم بالزبائن، الذين ما انفكوا يتوافدون زرافاتٍ ووحداناً، بعضهم يقهقه بصوت عالٍ بعد أن ابتلت عروقه وبلغ حدّ الشبع. اما أنا فأضحك مع نفسي من نفسي المشتتة ما بين المغسلة والفرن وصندوق الطماطم وكيس الخيار، ودافناً صرخاتي الهستيرية في دواخلي الممزقة
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة