كُنت قد أوضحت في المقال السابق والجزء الأول حول أهميّة الدور الذي ظلت تلعبه القوي المدنيّة في قيادة عملية التغيير في بلادنا ، وبالتالي أهميّتها برغم العيوب الداخلية فيها والإخفاقات مع كُل عمليّات التكسيّر التي حدثت لها وأثرت مؤكد علي فاعليتها وأدائها في فترات الديكتاتوريات المختلفة والأنظمة الشمولية خاصة في عهد الإسلاميين ونظام المؤتمر الوطني ماقبل الثورة ، ومهدّت لهذا المقال والجزء الثاني بالحديث عن الأخطاء الكارثية التي وقعت فيها القوي المدنيّة ومن كانوا يقودون مابعد الثورة والفترة الأنتقالية وساهمت بصورة وأخري فيّما نحن فيه الآن ومن الضروري تحملها للمسؤلية بدرجات متفاوتة لأنها كانت جزء اساسي منها ومن عملية التغيير التي تمت ، وحتي لحظة إندلاع الحرب في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ ، ثم ما تلي ذلك من محاولات للحلول ووقف الحرب ولمللمة هذه القوي المُتناثرة والمُتناحرة والمُنقسّمة ، وصولاً إلي ما أسميته إعادة ترتيبها من جديد لمُجابهة التحدّيات والمخاطر التي تواجهها بلادنا وعلي رأسها وجودها نفسه ووحدتها مروراً بوقف الحرب ثم إعادة التحول الديمُقراطي فيها وحلحلة كافة قضايا البناء فيها والمُشكلات حلول نهائية عبر الحوار والسِلم تستعدّل بها بلادنا وتأخذ طريقها الصحيح... وهذه القضايا المركزية التي تستحق الإلتفاف حولها يعوزها قوي مدنيّة فاعلة وموحدة ومُتماسكة ، وهذا يتطلب إعادة النظر في الكثير من الأشياء وطُرق العمل ومنهجيته والعمل القيّادي داخلها والكادر الذي يُمكنه النجاح في الوصول بهذه القوي لأُسس عمل جماعي ومشترك فاعل بعيّد عن التقليدية والهيّمنة وتكرار الأخطاء والإصرّار علي مسارات جُربت ولم تؤدي إلا للفشل ، بل وساهمت كما قلت في كُل هذا الواقع الخطيّر الذي وصلت إليه بلادنا.... ليس هنالك عمل أو تجربة من غير أخطاء ، هذا صحيّح ، خاصة لمرحة أتت بعد غياب طويل عن أي ملامح لديمُقراطية أو إستقرار سياسِي في بلادنا ، وكان من الطبيّعي بعد الثورة أن تحدث أخطاء ، لكن أن تقود هذه الأخطاء أو تُساعد وتُساهم في المصيّر الحالي والواقع الذي تعيشه بلادنا ، ومالايزال يُحيط بها من مخاطر ، فهنا يصبح التوقف وإعادة التقيّيم والتصحيح والبناء عليه ضرورة وطنيّة وواجب لا تهاون فيه أو مُجاملة ، ويصبح الصمت عنه أو الإستسلام جريّمة في حق بلادنا والشعب السُوداني وفي حق أنفسنا. هذه الأخطاء ليست مُرتبطة باشخاص فقط ، ولكن أساسها هو العقليّات والمنهجيّة التي كان يُدار بها الفعل السياسِي في بلادنا وطريقة إتخاذ القرارات ، والخط العام الذي تتحرك فيه القوي المدنية مابعد الثورة ، وشاهدنا كيف تم المجئ باعلي سلطة تنفيذية في البلاد وشخصيّة مدنية كانت بعيّدة كُل البُعد عن الثورة ومايدور في البلاد لقيّادة مرحلة تُعد من أصعب وأعقد المراحل في تاريخنا الحديث ، وحتي الذين تعاونوا معه في هذه المرحلة وشكلوا أساساً للقرارات السيّاسية وقعوا في العديّد من الأخطاء ومارسوا سلوكاً إقصائياً وإنفراداً بالسُلطة والتحكم في القرارات أدي إلي إنعزال القوي الثورية عن بعضها وتراجع دورها وبعد أن ساهمت بقوة في التغيير وكان يمكن أن تكون حامية له وسند دخلتها الإختلافات نتيجة لتجاذبها من ذات القوي المدنية فبدأت وحدة القوي المدنية في التمزق شئياً فشئياً نتيجة لغياب العقل الجمعّي المُدرك لحساسية وتحديات تلك المرحلة وسيادة العقل المُتحكم السُلطوي الذي لايري أبعد من كراسي السُلطة ونفوذها ، فبدأت التنازلات وإنخفاض الصوت المدني مُقابل العسكري والإنحناءة لماكانت تُحيكه قوي الثورة المُضادة ، ثم الوقوع في مُخططاتها ، والعمل علي أجندتها ، وكل هذه المُقدمات والملامح لهذا ظهرت مابعد الإنقلاب علي الثورة ، والطريقة التي عاد بها رئيس وزراء الفترة الإنتقالية ، ثم إستقالته ، ثم محاولات العودة للتحول الديمُقراطي ومسار التسوية والإتفاق الإطارئ ثم الحرب ، ثم عاد مرة أخري رئيس الوزراء السابق نفسه للظهور في قيادة أكبر تحالف مدني لوقفها ، وهو أمر كان غريباً وشاذاً في تقديري لإرتباط عملية الوقف بعمليات وقرارات وإتصالات سياسِية ، جئ فيها بنفس الشخص الذي كان سبباً من أسباب مايحدث مع آخرين معه ، وهذا كان خاطئاً تماماً في تقديري ، لأن منهج العمل لم يتغير والأشخاص الذين ينفذونه وفي قيادته ويتحكمون فيه ظلوا هم أنفسهم ، فكان من الطبيعي مزيد من الإنقسام ومزيد من التشظي والتفكيّر بعقليّة السُلطة وليس مصالح بلادنا في الحلول المُنتجة والحقيقية والفاعلة. وبالمُقابل ظلت هنالك أيضاً داخل القوي المدنية والثورية غير المُرتبطة بالسلطة بشكل مباشر اثناء الفترة الإنتقالية ومابعدها وفي فترة الحرب عقليّات مُتكلسة و مركزية ومُتحجرة لا تقرأ الواقع بشكل جيّد وليس لها حدود للمرونة للتعامل مع المُتغيرات فيه والذهاب لمصالح السُودانيين وتقديم التنازلات بعيداً عن شخصّنة الخلافات والتي هي واحدة من كارثيات المشهد داخل القوي المدنيّة بكل وضوح ومُحرك للكثير من مايدور داخلها ويمنعها من تجاوز خلافاتها وحصرها في القضايا التي يتم الإتفاق حولها أو في مناهج وأدوات العمل للوصول لصيّغ عمل مدني وسياسِي مُشترك وفاعل ومُثمر تستفيّد منه بلادنا وشعبنا. هذه العقليّات المُتحجرة والمركزية أعاقت دون شك وساهمت بدرجة كبيرة في تشظي القوي المدنية وعدم وحدتها وفاعليّتها ، يُضاف لذلك ما ظلّلت أقول به وهو ظاهرة التمسُك بالأراء ومحاولات إما فرضها أو عدم العمل التنسيقي والمُشترك برغم وضوح القضايا المُتفق عليها ، ويظهر هذا خصوصاً عند تصميم هياكل تنظيّمية أو عمل قيّادي تنفيذي أو مواقع قرار داخل تلك الهياكل ، وهذا أيضاً أسهم بقوة في إضعاف القوي المدنيّة وعدم وصولها لصيّغة عمل مُشترك فيما بينها حول الأهداف والقضايا المُتفق عليها مُسبقاً وتمثل من المُفترض مبادئ عامة أساسيّة ، وأيضاً ما أُسميّه بالتخندُقات أو التمترُس في المواقف وعدم التحرك منها لصالح العمل الجمّاعي المُشترك والفاعل. إذاً نحن أمام واقع للقوي المدنيّة يتطلب إعادة النظر والتصحيح لكل تلك الأخطاء ، في طريقة التفكيّر والعقليّة والمنهجية والعمل القيّادي ومن ينفذونه ، وبحاجة كذلك في إبتداع طريق جديد يقود لإعادة ترتيب هذه القوي ، أساسه هو القبول بالتغيير والتصحيح لصالح بلادنا ، وأقصد بالتغيير ليس فقط الأشخاص والقيّادة..... أواصل في الجزء القادم بإذن الله حول أُسس هذا التغيير وعملية التصحيح التي يُمكن أن نصل بها لإعادة ترتيب القوي المدنيّة ووحدتها وتماسكها في المرحلة القادمة للمُساهمة الفاعلة في مقابلة كافة المخاطر والتحدّيات التي تواجهها بلادنا والشعب السُوداني في هذه المرحلة المفصلية والعصيّبة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة