يُعاني السودان اليوم، تحت وطأة رصاص الحرب وقسوة الأيام، جرحاً غائراً لا يُرى في سجلات القتلى وحدها أو خرائط الدمار المادي فحسب. إنه تمزق النسيج الاجتماعي والقبلي؛ نزيف صامت يُهدد بتقويض ما تبقى من أسس دولة، ويُنذر بمستقبل تتشظى فيه الهوية الوطنية على مذبح ولاءات فرعية أضرمت فيها نيران الصراع.
بينما تتسابق الأقلام لتحليل المشهد العسكري، أو تنبؤ مصير السلطة، يغفل الكثيرون عن الخطر الوجودي المحدق بجوهر المجتمع السوداني ذاته، خطر يُهدد بترك أرض محروقة يسكنها مجتمع مفكك، يصعب لملمة شتاته بعد توقف المدافع. لقد كانت حرب الخرطوم، التي سرعان ما امتدت نيرانها لتلتهم دارفور وكردفان والجزيرة، قنبلة مزقت شرايين حياة متينة، كان يُعتقد أنها عصية على الانفصام. فالنزوح القسري لملايين السودانيين، الذين اقتلعوا من جذورهم وبيوتهم ومساجدهم ومدارسهم، لم يكن مجرد حركة ديموغرافية؛ بل كان تشريداً لروابط متوارثة عبر أجيال. فالعائلات التي عاشت متجاورة قروناً، باتت اليوم متناثرة في مخيمات اللجوء والنزوح، يفصلها آلاف الأميال وعوائق الاتصال، لتُقطع تدريجياً شبكات الدعم التقليدية والاجتماعية التي كانت صمام أمانهم الأول. كيف يعود اللحم إلى العظم وقد بُترت أواصر الدم والتكافل التي بنتها الجيرة الطويلة والتاريخ المشترك؟
الأكثر إيلاماً هو كيف تغلغلت الحرب في عمق البنيان القبلي، الذي لطالما شكل عموداً فقرياً للحياة الاجتماعية في السودان، وساحةً للدبلوماسية المحلية في أزمنة السلم. انقسمت بعض القبائل على نفسها، مقتفية أثر قادتها الذين انحازوا لهذا الطرف أو ذاك، فبات الأبناء يُقاتلون أبناء العمومة، والجيران يقتتلون على ولاءات جديدة فُرضت عليهم بفوهات البنادق. في دارفور وكردفان، حيث كانت العلاقات القبلية هي المحرك الرئيسي للحياة، أصبحت الخنادق تفصل بين أبناء القبيلة الواحدة، تُذكي نار الثأر والانتقام التي قد لا تنطفئ لعقود. لقد انهارت آليات حل النزاعات التقليدية التي كانت تستمد شرعيتها من كبار القبيلة والوجهاء، بعد أن فقدت صوتها ووزنها في ظل صليل الرصاص وسيطرة البنادق، مما أفسح المجال لفوضى مُنظمة تزيد من الشروخ القبلية.
ولعل الأخطر في هذا التآكل الاجتماعي هو تكوين أجيال (الحرب والنزوح). فالملايين من الأطفال والشباب، الذين عاشوا ويُعانون من ويلات الصراع، باتوا يُشكلون جيلاً ضائعاً مُهدداً. هؤلاء الشباب، الذين أجبروا على حمل السلاح أو العيش في ظل الفوضى وغياب التعليم، قد يفقدون الارتباط بالقيم المدنية، ويُصبح العنف جزءاً أصيلاً من تكوينهم النفسي والاجتماعي. من يُعلم هؤلاء أصول المواطنة والتعايش السلمي بعد أن كانت دروسهم اليومية هي فنون البقاء والقتال؟ الولاءات الجديدة، بعيداً عن مفاهيم الدولة والوطن، تتشكل لتلتحم بالمجموعات المسلحة أو القادة الذين يوفرون لهم الحماية أو القوت، مما يهدد بتفتيت الولاء الوطني للدولة الحديثة ويُعيد البلاد إلى مربع الولاءات ما قبل الوطنية. هذا التفكك ينعكس أيضاً في الآثار النفسية العميقة التي تُخلّفها الحرب؛ فالفقدان المستمر، مشاهد العنف، والنزوح القسري، يُولّد صدمات نفسية جماعية قد تُعيق أي قدرة على إعادة بناء الثقة والتعاون المجتمعي في المستقبل، في ظل انهيار شبه كامل لخدمات الدعم النفسي والصحة العقلية.
ولا يمكن فصل هذا التمزق عن نمو اقتصاد الحرب الخفي الذي يُعد وقوداً رئيسياً للاقتتال، ويُغذي الشروخ الاجتماعية. فبينما تنهار المؤسسات الرسمية وتُفقد السيطرة على موارد الدولة، تزدهر شبكات التهريب (خاصة الذهب والأسلحة)، والجباية غير المشروعة، والسيطرة على الموارد الطبيعية بالقوة. هذا الاقتصاد الموازي، الذي تُسيطر عليه الأطراف المتحاربة ومجموعات مسلحة أخرى، لا يُغذي الصراع فحسب، بل يُشكل شبكة معقدة من المصالح تُهدد أي فرصة لتعافي اقتصادي مستدام بعد الحرب. كيف يُمكن إعادة بناء قطاع مصرفي مستقر أو اقتصاد منتج عندما يكون جزء كبير من الثروة يتم تداوله خارج سيطرة الدولة وعبر شبكات غير شرعية؟ إنه نزع سلاح الاقتصاد الذي سيُشكل تحدياً هائلاً، قد يفوق في صعوبته نزع سلاح المليشيات. هذا الاقتصاد الموازي يُشكل أيضاً بيئة خصبة لتجنيد الأفراد وتدمير مصادر الرزق التقليدية، مما يدفع المزيد من السكان إلى أحضان الفوضى ويُعمق التفكك الاجتماعي.
وفي ظل هذا التفكك، يقف العالم مكتوف الأيدي، أو مُشبعاً بتحليلات عسكرية وسياسية تفتقر للعمق المطلوب، بينما تتصارع المحاور الدولية والإقليمية على النفوذ في السودان، مُذكية نيران الحرب وتُغذي اقتصادها الخفي. فالقوى العظمى وبعض القوى الإقليمية تُدرك جيداً أن التحكم في اقتصاد الحرب هو مفتاح النفوذ.
فالذهب السوداني يُعد شريان الحياة المالي للدعم السريع ، وتشير تقارير متعددة إلى شبكات تهريب معقدة تُمكنه من شراء الأسلحة المتطورة، كالمسيرات التي يُشاع أنها تأتي من دول مثل الإمارات العربية المتحدة، وتجنيد المرتزقة من جنسيات مختلفة (بما في ذلك تقارير عن مقاتلين لاتينيين). هذا الدعم الخارجي يُمكن الأطراف من الاستمرار في القتال ويُحقق مصالح استراتيجية لتلك القوى (مثل الوصول إلى الموانئ في البحر الأحمر، أو التأثير على طرق التجارة الحيوية، أو التنافس على النفوذ الجيوسياسي ضد منافسيها). هذا التدخل الخارجي، الذي يرى في الفوضى فرصة، يُساهم بشكل مباشر في إدامة الصراع الذي بدوره يُعمّق التفكك الاجتماعي ويُقوّض أي جهود للسلام والاستقرار.
إن تأثير هذا الصراع لا يقتصر على النسيج الاجتماعي والجانب الاقتصادي فحسب، بل يمتد ليشمل الطبقة الوسطى والمثقفين، الذين يُعدون قاطرة التغيير المدني وبناء الدولة الحديثة. هذه الشريحة تضررت بشدة، فالكفاءات والعقول السودانية تُنزف خارج البلاد بسبب الحرب، مما يُضعف قدرة السودان على التعافي وبناء مؤسسات قوية بعد الصراع. وفي ظل سيطرة خطاب العنف والتجييش، تراجعت مساحة صوت العقل، وأصبح المثقفون والخبراء يواجهون تحديات هائلة في ظل الاستقطاب الحاد، مما يُقلل من فرص التوصل إلى حلول سلمية وواقعية. كما أن تدمير الموروث الثقافي والحضاري (المواقع الأثرية، المتاحف، المخطوطات) يُعد محواً لجزء من الذاكرة الجماعية والهوية الوطنية، مما يُعمّق من أزمة الهوية التي يُعاني منها المجتمع المتفكك.
وأخيراً، يُسلط الضوء على دور الإعلام (المحلي والدولي) في تعميق أو رتق هذا التمزق. فالخطاب الإعلامي، خاصةً على وسائل التواصل الاجتماعي، يُساهم في تغذية الكراهية والانقسام بين مكونات المجتمع، وتأجيج الصراعات القبلية والعرقية بدلاً من رأب الصدع. ومع غياب التغطية المعمقة للأبعاد الإنسانية والاجتماعية للحرب، يُصبح المشهد مقتصراً على السرديات العسكرية والسياسية، مما يُفقد الجمهور فهماً أعمق للأزمة وتداعياتها.
وإذا ما توقفت المدافع اليوم، فالسؤال المحوري ليس من سيسيطر على القصر الجمهوري، بل هل ستبقى هناك أمة يمكنها أن تُحكم؟ إن إعادة بناء السودان لن تقتصر على إعادة بناء الجسور والطرقات، بل ستتطلب جهداً تاريخياً، اجتماعياً ونفسياً وثقافياً، لإعادة رتق نسيج مجتمع تمزقته أظافر الحرب. إنه تحذير صريح للعالم إن لم يستفق الضمير الإنساني لإدراك حجم هذه الكارثة الخفية، ولم تُفهم الأبعاد المعقدة لاقتصاد الحرب وصراع المحاور الذي يُغذّي هذا التفكك، فإننا سنشهد انهيار أمة كاملة، تاركة وراءها فراغاً هائلاً ستملؤه الفوضى لعقود قادمة، وستكون تداعياته أكبر بكثير من حدود السودان.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة