أري كغيري من الراصدين أن يشهد السودان إحدى أعقد مراحله التاريخية، حيث تتقاطع الأزمات الداخلية المتجذرة مع تدخلات إقليمية ودولية كثيفة، تضع مستقبل الدولة على المحك، وتفتح الباب أمام سيناريوهات تتراوح بين التدويل المقنّع والتفكك الرسمي وسط غياب واضح لمركز قرار وطني موحد. تفكك السلطة وتعدد مراكز القرار منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، بات المشهد السياسي متشظيًا على نحو غير مسبوق. فإلى جانب الجيش والدعم السريع، تحتفظ الحركات المسلحة والنخب الجهوية والقوى المدنية بأدوار متفاوتة، دون أن تملك أي جهة القدرة على فرض مشروع وطني جامع. هذه البنية المتصدعة تحوّلت إلى بيئة خصبة للتدخل الخارجي، تحت مبررات إنسانية أو أمنية ولكن بأجندات استراتيجية معلومة. المبادرات الخارجية: وساطة أم إعادة تشكيل؟ تشير التحركات الدبلوماسية الأخيرة في جدة، البحرين، وبورتسودان إلى وجود رغبة خليجية–غربية في إعادة تشكيل الخارطة السياسية السودانية. ويبرز الدور السعودي–الإماراتي بشكل خاص، في ظل سعي البلدين إلى تأمين مصالح استراتيجية على البحر الأحمر، وضبط النفوذ الإسلامي، وضمان وجود نُخب سودانية صديقة أو تابعة ضمن أي تسوية مرتقبة. في المقابل، تبدو الولايات المتحدة أكثر تركيزًا على الملف الأمني، وسط مخاوف متزايدة من تحوّل السودان إلى بيئة خصبة للجماعات المتطرفة أو قاعدة محتملة للنفوذ الروسي (خاصة عبر "فاغنر"). ويدفع هذا المنظور إلى تعزيز فكرة "التدخل الناعم" عبر ممرات إنسانية أو مبادرات حوكمة انتقالية لا تنبع من الإرادة الوطنية. الممرات الإنسانية: مدخل لتدويل الأزمة؟ رغم أهمية الإغاثة الإنسانية، إلا أن طرح فكرة "الممرات الإنسانية" في ظل انعدام التوافق السياسي المحلي، يثير تساؤلات عن تحولها إلى مناطق نفوذ دولي بواجهات إنسانية. التجارب الدولية، من البوسنة إلى ليبيا، تؤكد أن هذه الممرات قد تُفضي إلى تفكيك المؤسسات الوطنية، وتمهّد لتدخلات عسكرية أو أممية، تكرّس حالة ما بعد الدولة أكثر من حلحلتها.
تآكل الدولة وانهيار الخدمات على الأرض، يتسارع انهيار مؤسسات الدولة. فمع توقف المدارس والجامعات، وتفشي ظاهرة تزوير الشهادات، يفقد التعليم وظيفته التنموية ويتحوّل إلى أداة للتحكم والتلاعب. أما الاقتصاد، فيتجه إلى نمط "اقتصاد الحرب"، حيث تُدار الموارد بعيدًا عن أي تخطيط مركزي، وتذهب العائدات نحو تمويل النزاعات أو إثراء النُخب.
النزوح الجماعي، خصوصًا من دارفور والخرطوم، يعمّق الأزمة الإنسانية والاجتماعية، ويهدد النسيج الوطني، في وقت تبدو فيه الدولة غير قادرة على تأمين أبسط احتياجات مواطنيها، أو حمايتهم من العنف والانهيار الصحي والبيئي.
إلى أين يتجه السودان؟ تتعدد السيناريوهات المحتملة، ومنها -التدويل الكامل- مع استمرار فشل النُخب في التوافق، قد تفرض الأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي إدارة مباشرة لبعض المناطق، كما حدث سابقًا في الصومال وتيمور الشرقية. تقسيم النفوذ الإقليمي - من خلال ترتيبات غير رسمية، تُقسّم البلاد إلى مناطق نفوذ مرتبطة بمحاور إقليمية، كالإمارات ومصر في الشمال، والسعودية وقطر في الشرق، وربما فرنسا وتشاد في الغرب. انفجار شعبي جديد- مع تصاعد الغضب الشعبي من غياب الرؤية الوطنية وارتهان القرار السياسي للخارج، يبقى احتمال الانتفاض قائمًا، لا سيما في الأوساط الشبابية التي قادت ثورة ديسمبر. هل يمكن إنقاذ ما تبقى؟ إن ما يمر به السودان ليس مجرد أزمة حكم، بل أزمة مشروع وطني مهدد بالضياع. ولا يمكن لأي مبادرة خارجية، مهما كانت نواياها، أن تحل محل الإرادة السودانية الحرة. المطلوب اليوم هو اكثر من عقد اجتماعي جديد وتحالف وطني لحماية السودان من التلاشي امام الصراع الدولي، ولا بد من أن نضع المواطن في مركز العملية السياسية، ونستعيد للدولة من قبضة السلاح والصفقات الخارجية.
*وحتى يحدث ذلك، سيظل السودان بين مطرقة التفكك الداخلي وسندان الاستقطاب الإقليمي والدولي. لكنه، كما قال أحد شعرائه الكبار: "ما زال في القلب متسعٌ لفرحٍ لم يأتِ بعد."
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة