في ظل التصعيد العسكري غير المسبوق، وبينما تتساقط معسكرات الجيش ومواقعه واحدة تلو الأخرى تحت ضربات الطائرات المسيّرة، تقف القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية اليوم في مواجهة سؤال مرير: من كذب عليها؟ ومن ضللها عن عمد؟
ففي الوقت الذي كانت فيه التقارير الاستخباراتية تطمئن قيادة الجيش بانهيار قوات الدعم السريع وفقدانها القدرة على المبادرة، أتت الضربات الجوية الموجعة في بورتسودان ومروي وكنانة والفاشر لتسقط هذه الرواية بالكامل. كانت تقارير تقول إن الدعم السريع يتفكك من الداخل، وأن قادته الكبار إمّا قُتلوا أو فرّوا، فإذا بهؤلاء يظهرون أحياء يقودون أعقد عمليات الطيران المسيّر ويسيطرون على أراضٍ استراتيجية. ما الذي جرى؟ ومن الذي بنى "استراتيجية الحرب" \على أوهام لا أساس لها؟ استخبارات معطوبة وتضليل مركّب تشير المعطيات المتقاطعة إلى فشل كارثي لجهاز الأمن والمخابرات العامة بقيادة الفريق أحمد إبراهيم مفضل. فبينما أدخل هذا الجهاز تقنيات الطيران المسيّر إلى البلاد عقب التعاون مع تركيا، تسربت هذه التقنيات – بطريق معلوم أو مجهول – إلى يد العدو. لا يُستبعد أن تكون صفقات داخلية أو اختراقات ممنهجة وراء هذه الكارثة الأمنية. لم يكن الضرر فقط في التقنيات، بل في المعلومات المضللة. فرُفعت تقارير إلى القيادة تؤكد قرب نهاية الحرب لصالح الجيش، بينما كانت مدن بأكملها تنهار على وقع تفوق جوي للدعم السريع. تقارير كرّستها غرف إعلامية لها ارتباطات خارجية (مصرية وقطرية وتركية) تواطأت مع تيارات داخل النظام لتسويق نصر وهمي، والدفع بقيادة الجيش إلى خيارات ميدانية انتحارية. هل ما زال التفاوض ممكناً؟ دعم سريع يرفض "منبر الخيانة" يأتي هذا الانهيار في وقت تبدو فيه آفاق التفاوض أكثر غموضاً من أي وقت مضى. فبعد توقيع اتفاق المنامة برعاية دولية، فوجئ الوسط الدبلوماسي برفض الجيش الالتزام بمخرجات الاتفاق، بل والمضي في تصعيد عسكري بالتوازي مع الحملات الإعلامية المحرّضة. هذا الخرق الواضح، لم يكن مجرد إخلال سياسي، بل خيانة مباشرة لكل الضامنين الدوليين الذين راهنوا على "تعقّل" المؤسسة العسكرية. فكيف يمكن للدعم السريع – وهو الآن في موقع التفوق – أن يعود إلى منبر جدة، بينما الطرف الآخر تنصّل من اتفاق المنامة في أول منعطف؟ إن كان ثمة من يدفع اليوم نحو تجميد العملية السياسية، فهم الإسلاميون داخل الدولة العميقة. يرون في وقف الحرب نهاية نفوذهم الأمني والسياسي. ويخشون أن تقود التسوية إلى مساءلات قانونية حول الجرائم التي ارتُكبت باسم الدين وباسم الدفاع عن السودان. من القتل الجماعي، إلى التعذيب الممنهج، إلى إشعال الفتن بين المكونات المجتمعية، هي جرائم لن تسقط بالتقادم.
القصاص قادم... وهذه شهادة دامغة كل من دعم كتائب الظل، والمليشيات العقائدية، ومن منح الغطاء الشرعي والسياسي لجرائم الاغتصاب والتطهير العرقي والنهب والاغتيال، عليه أن يدرك أن القصاص قادم. لا أحد فوق العدالة، ولا مجاملة مع من ولغوا في دماء هذا الشعب. إن هذا التقرير الذي يكشف حقيقة الضربات الموجعة وخلفيات التضليل الأمني، ليس مجرد سرد للحوادث، بل وثيقة اتهام سياسية وأخلاقية ضد منظومة كامنة ما زالت تحكم من الظل، وتجر البلاد إلى الخراب. ما بعد الهزيمة... لا مناص من الاعتراف الجيش، إن أراد فعلاً إنقاذ ما تبقى من الوطن، عليه أن يعترف بأنه تعرّض للكذب والخداع. عليه أن يطهّر صفوفه من تيارات الأيديولوجيا والفساد. وعلى من تلطخت أيديهم بالدماء – من الطرفين – أن يعلموا أن ساعة الحقيقة قد اقتربت. أما منبر جدة، فلن يكون له معنى إن لم يُبنى على صدق الالتزام، والوضوح، والمحاسبة. هل تعود أصوات العقل لتعلو فوق أصوات المدافع؟ أم أننا أمام صيف آخر من الدم والانهيار؟ , هذا ما ستكشفه الأيام القليلة القادمة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة