خلال العقود الأخيرة، برز الخطاب الشعبوي الإسلامي كقوة سياسية في عدة دول ذات أغلبية مسلمة، مُتخذاً من الدين إطاراً لمواجهة الأنظمة الحاكمة تحت شعارات محاربة الفساد والدعوة إلى التطهير الأخلاقي. لكن بينما يبدو هذا الخطاب للوهلة الأولى مُحرِّراً للجماهير من هيمنة النخب، يطفو سؤال جوهري: هل يُشكل هذا التيار مشروعاً إصلاحياً حقيقياً، أم أنه يُعيد إنتاج أزمات السلطة تحت غطاء ديني؟ أولاً الإطار المفاهيمي للشعبوية الإسلامية تعتمد الشعبوية عمومًا على ثنائية "الشعب المُضطهَد" مقابل "النخبة الفاسدة"، كأداة خطابية تفتقر إلى أيديولوجيا مُتماسكة. أما الشعبوية الإسلامية، فتُضفي على هذه الثنائية بُعداً دينياً عبر توظيف مفاهيم مثل "العدالة الإلهية" و"الخيانة للهوية"، حيث تُصوَّر النخب الحاكمة أو الثقافية ككيانات منحلّة أو مُوالية للغرب، بينما يُقدَّم "الشعب المسلم" ككيان مُتجانس ضحية للاضطهاد. لا ترتبط هذه الشعبوية بمدرسة فقهية محددة (سلفية، صوفية، إلخ)، بل هي استراتيجية خطابية براغماتية تعتمد على - اللغة العاطفية توظيف الرموز الدينية المُثيرة للوجدان (كـ"الجهاد" و"المقاومة"). التبسيط الثنائي ما بين اختزال التعقيدات السياسية في صراع بين الخير والشر، الإيمان والكفر. شرعنة الخطاب هو محاولة ربط المطالب السياسية بالنصوص الدينية لتجاوز النقد العقلاني. ثانياً - الإيجابيات بين الواقع والخطاب لا يُمكن إنكار أن هذا التيار حقق تأثيرات ملحوظة، منها - تسييس الدين و تحويله من ممارسة فردية إلى أداة ضغط جماهيري، مما فتح باب النقاش حول شرعية الحكم. تعبئة المهمشين و إشراك فئات لم تكن مُنخرطة سابقاً في العمل السياسي بسبب انعدام الثقة بالأحزاب التقليدية. كسر احتكار الشرعية هذا هو تحدي ادعاء الأنظمة الحاكمة بأنها الممثل الوحيد للإرادة الشعبية. ثالثاً التناقضات الهيكلية والانتكاسات ومع ذلك، تكشف الممارسة العملية عن تناقضات عميقة - التبسيط المُضلل هو ما نري في اختزال الصراعات السياسية في معركة وجودية تُلغي التعددية داخل المجتمع الإسلامي نفسه، مما يُعيق الحوار ويُغذي الاستقطاب. الدين كأداة سلطة هذه من اخطر الممارسات وهي تحويل الخطاب الديني إلى وسيلة للهيمنة بدلاً من كونه مصدراً للأخلاق، حيث تتحول الشعارات الدينية إلى غطاء لممارسات استبدادية تشبه تلك التي انتقدتها. غياب الرؤية المؤسسية وهذا ما حدث من خلال التجربة السودانية هو افتقاد مشاريع تنموية أو اقتصادية قابلة للتطبيق، مع تركيز الخطاب على الشعارات العاطفية بدلاً من الحلول العملية. المفارقة الغربية - استخدام أدوات الحداثة (كالإعلام الرقمي وخطاب "الشعب أولاً") لمهاجمة القيم الليبرالية، دون تقديم نموذج حوكمة بديل قائم على المشاركة الفعلية أو الشفافية. رابعاً نحو تفكيك نقدي لتحويل الشعبوية الإسلامية من خطاب استقطابي إلى قوة إصلاحية، لا بد من- الفصل بين الدين والسياسة اعتبار الدين مصدراً للأخلاق العامة، لا أداةً لشرعنة السلطة. وهذا ليس عداء للتدين تبني العقلانية النقدية و تحويل الحوار من الصراع العاطفي إلى نقاش مؤسسي حول العدالة الاجتماعية والاقتصاد والحوكمة. التخلي عن ثقافة التقديس وهذا هو الامر المفقودالان بيننا وكذلك نقد الذات قبل نقد الخصوم، والاعتراف بإخفاقات التجارب الشعبوية السابقة (كمصر وتركيا). الانفتاح على التعددية لابد من قبول الاختلاف داخل الفضاء الإسلامي وخارجه كضرورة لبناء دول مستقرة. الدين بين الإلهام الأخلاقي والأدلجة السياسية الشعبوية الإسلامية ليست ظاهرة مُنفصلة عن أزمات العالم الإسلامي، بل هي نتاج لانسداد الأفق السياسي وغياب المشاريع الإصلاحية العقلانية. إن تحويل الدين إلى سلعة خطابية يُهدِّد جوهره الروحي، ويُحوِّله إلى أداة صراع عوضاً عن كونه جسراً للحوار.
*الحل لا يكمن في تبني خطابٍ دينيٍ مُعاكس، بل في بناء عقد اجتماعي جديد يُعيد الاعتبار للعقل وللحقوق المدنية، ويجعل الدين مصدر إلهامٍ للأخلاق، لا سيفاً مسلطاً على رقاب المختلفين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة