يا له من مقال يقطر وطنية مفرطة، حتى لكأنه يريد أن يقنعنا بأن رائحة البارود هي عطر الوطن، وأن صوت الرصاص هو ترانيم العودة! يطل علينا كاتبنا الملهم، السيد/ خالد عبد الله محمد المصطفى، بنظريات مجلجلة عن الانتماء، بينما يغض الطرف ببلاغة متقنة عن الحقائق المرة التي تدفع الكثيرين إلى التشبث بخيوط الأمان بعيدا عن الوطن الذي يصوره كأرض واعدة لا تحتاج سوى الأمل والعرق.
ليست العودة إلى الديار مجرد خطوة جغرافية أو قرار ظرفي، بل هي اختبار حقيقي لعمق الانتماء. حقا؟ أي اختبار هذا الذي يقام على مسرح من الخراب والفقد؟ هل يقاس الانتماء بمدى استعداد المرء للتنفس تحت سماء ملبدة بالخوف، أو النوم على وسادة من الذكريات الأليمة؟ يبدو أن كاتبنا يؤمن بأن الوطن هو حلبة مصارعة، وأن العودة هي جولة إضافية لإثبات صلابة العزيمة في وجه الموت المحدق.
أما تلك العبارة الساحرة الأوطان تبنى مرتين مرة بالحجر، ومرة بالإصرار." فهي تشبه تماما وصفة سحرية لإعادة الحياة إلى رماد الماضي. لكن الواقع أكثر تعقيدا من هذه الثنائية البسيطة. الإصرار وحده لا يعيد بناء مستشفى مدمر، ولا يوفر راتبا لمعلم شريد، ولا يعيد طفلا يتيما إلى مقاعد الدراسة الآمنة. الإصرار يصبح عبئا إضافيا حين يطلب من أفراد منهكين أن يكونوا هم الحجر والإسمنت والمقاول في آن واحد.
ثم يأتي التشبيه العبقري بين الوطن والفندق، ليدين أولئك الذين ينتظرون الحد الأدنى من الخدمات وكأنهم نزلاء يطالبون برفاهية مفرطة. يا له من ظلم بين! هل يعتبر طلب الماء النظيف والكهرباء المستمرة والأمن الشخصي رفاهية في القرن الواحد والعشرين؟ يبدو أن الوطنية في قاموس كاتبنا تعني القبول بكل أشكال الحرمان والتضحية بالحقوق الأساسية على مذبح الواجب الوطني.
وتتوالى الوصفات العلاجية الساذجة حول الأنقاض إلى مدارس. اجعل الفوضى نظاما. اقلب اليأس إلى إرادة. كأن الأمر لا يتعدى دورة تدريبية في التنمية البشرية بنكهة محلية. ترى، هل زار كاتبنا مخيمات النازحين ليخبرهم عن كيفية تحويل خيامهم البالية إلى صروح علمية؟ هل شرح لهم كيف يحولون فقد أحبائهم إلى دافع للإرادة؟ يبدو أن التنظير من بعيد هو أسهل السبل لإظهار الحكمة الزائفة.
أما وصف المنتظرين بـ السائح العابر فهو قمة الوقاحة والإنكار. هؤلاء ليسوا سياحا يقيمون في الوطن بتقشف اختياري، بل هم أصحاب الحق الذين أجبروا على مغادرة ديارهم أو يفضلون البقاء بعيدا حفاظا على حياتهم وكرامتهم. إن مقارنتهم بالسياح تظهر مدى انفصال الكاتب عن واقعهم المرير.
الوطن جسد واحد.. فكيف نعيش كغرباء؟ نعم، هو جسد واحد، لكنه جسد مصاب بالشلل الرباعي، وجسد ينزف من كل حدب وصوب. إن مطالبة الأطراف المبتورة بالشعور بالوحدة مع الجسد السليم هو ضرب من ضروب العبث العاطفي. الغربة الحقيقية هي أن تشعر بأن وطنك لم يعد لك وطنا آمنا وكريما. وفي الختام، تلك الدعوة الرومانسية للعودة ولو على أطراف الجراح تبدو وكأنها دعوة إلى الانتحار البطيء. الجراح تحتاج إلى تضميد وعلاج، لا إلى تجاهل باسم الوطنية. واليد التي تمسح الدمعة يجب أن تكون قادرة على توفير الأمن والغذاء والدواء، لا مجرد كلمات منمقة لا تسمن ولا تغني من جوع أو خوف.
إن مقال السيد المصطفى، بكل أسف، يقدم لنا وجبة دسمة من السطحية العاطفية، ويتجاهل بعناد أبسط متطلبات الحياة الكريمة للمواطنين. إنه أشبه برقصة بهلوانية بالكلمات على جراح شعب منهك، يطالبه بالعودة إلى حطام الماضي بينما يغمض عينيه عن قسوة الحاضر وغموض المستقبل. بدلا من هذه الخطب الحماسية الجوفاء، الأجدر بنا أن نواجه الحقائق المرة وأن نعمل بجد على بناء وطن يستحق العودة إليه، وطن يوفر الأمن والكرامة والأمل الحقيقي لأبنائه، لا مجرد وعود كاذبة وشعارات زائفة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة