في عصرٍ تتسارع فيه وتيرة التقدم التكنولوجي، أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا من نسيج حياتنا اليومية، وعنصرًا أساسيًا في تطورنا المعرفي. غير أن بعض الأصوات، للأسف، لا تزال تصرّ على تصويره كتهديد، لا كفرصة، وتتهم من يستخدمه بـ"السطحية" أو "الاتكالية"، وكأن أدوات المعرفة الحديثة جرمٌ يستحق المحاكمة.
أنا هنا لا لأدافع عن أداة، بل لأدافع عن جهدٍ إنساني صادق استثمر وقتًا وذهنًا في فهم هذه التكنولوجيا وتطويعها لخدمة العقل البشري. وأقول بثقة: الذكاء الاصطناعي ليس عدوًّا للمعرفة، بل جسرٌ متين يصلنا بها على نحوٍ لم يكن ممكنًا في الأزمنة السابقة.
الذكاء الاصطناعي: علمٌ ومهارة، لا محض صدفة الزعم بأن الذكاء الاصطناعي مجرد "آلة تكتب نيابةً عنا" اختزالٌ فجٌّ لحقلٍ علميٍّ معقد. فهو يقوم على نماذج رياضية متقدمة، وتحليل ضخم للبيانات، ومحاكاة للتفكير البشري، وليس على "نسخ ولصق" كما يروّج له المشككون.
حين بدأت رحلتي في هذا المجال، لم أطرق بابه بدافع الفضول العابر، بل بدافع الطموح العلمي. درستُ، وتدرّبتُ، وتحصلتُ على شهاداتٍ معتمدة في برمجة النماذج الذكية، وواجهتُ تحدياتٍ حقيقية تتعلق بكيفية تدريب الآلات على "فهم" الأنماط السلوكية واللغوية، بل واستثمرتُ هذه المعرفة في تطوير أدوات تعليمية ساعدت الطلاب في فهم المواد العلمية من خلال تحليل أدائهم الفردي في الامتحانات. أليس هذا عملًا تربويًا بامتياز؟
الهجوم على الذكاء الاصطناعي: قناعٌ لثقافة الخوف ما واجهته من انتقاداتٍ لاذعة بعد استخدامي للذكاء الاصطناعي في أعمالي لم يكن نقاشًا علميًا، بل أقرب إلى محكمة تفتيش. يقال إنني "هجرتُ المنهج الأكاديمي"، و"استسلمتُ للأدوات"، وكأن الإبداع لا يُقاس إلا بعدد الصفحات المكتوبة يدويًا!
لكن السؤال الجوهري: أليست الأكاديميا في جوهرها دعوة للتجديد والابتكار؟ ألم يكن ابن الهيثم والفارابي وأمثالهم مجددين لعلوم عصرهم؟ لماذا نمنح أنفسنا حق استخدام المطبعة والحاسوب والإنترنت، ونرفض الذكاء الاصطناعي؟
المشكلة الحقيقية ليست في الأداة، بل في عقلٍ يخشى الخروج من منطقة الراحة. في مجتمعٍ يصرّ على أن التطور "خيانة للتراث"، لا يمكن أن تزدهر المعرفة.
بنكٌ معرفيٌّ لا بديل عن العقل دعونا نكون واضحين: الذكاء الاصطناعي ليس مفكرًا، ولا شاعرًا، ولا ناقدًا. هو مجرد مساعد. إنه بنكٌ معرفيٌّ عملاق، يبحث، يصنّف، ينظم، لكنه لا يستنتج ولا يبدع إلا بيد الإنسان. عندما أستخدمه في كتابة مقالاتي، فهو لا يختار الفكرة، ولا يحدد النبرة، بل يساعدني في جمع المادة الخام وتحليلها. أما البناء، والجدل، والاستنتاج، فكلها من صُنع العقل البشري.
فما الفرق بين أن أستشهد بمجلدات تراثية، أو أستعين بأداةٍ تجلب لي ما في هذه المجلدات في ثوانٍ؟ هل يعيب الكاتب سرعة الوصول إلى المعرفة إن أحسن استخدامها؟
إلى النقّاد: لا تصادروا حق الآخرين في التجريب رسالتي لمن انتقدوا تجربتي: لا أحد يطلب منكم أن تحبوا الذكاء الاصطناعي، لكن من الأمانة الفكرية ألّا تهاجموه قبل أن تفهموه. إن الحكم على أدوات العصر من دون دراستها جناية معرفية، لا موقف علمي.
لقد استغرق الأمر عقودًا حتى قبل البعض الطباعة، ثم الحاسوب، ثم الإنترنت. وكل مرة، كان الرافضون يقولون الشيء نفسه: "هذا سيقتل الإبداع". ولم يمت. بل ازدهر. واليوم نسمع ذات الاتهامات تُعاد ولكن بثوبٍ جديد.
التكنولوجيا مرآة إرادتنا الذكاء الاصطناعي ليس كائنًا مستقلًا، بل مرآةٌ تعكس مستوى الإنسان الذي يستخدمه. من أرادها أداة للتفاهة، وجدها كذلك، ومن أرادها أداة للفهم والإبداع، فهي كذلك أيضًا.
التاريخ لا ينتظر المتأخرين، والعالم يتقدّم بأولئك الذين لا يهابون التجريب، ولا يقدّسون الوسائل القديمة على حساب الغاية: المعرفة.
فمن أراد أن يبقى في الظلّ، فله ذلك. أما نحن، فسنمضي نحو النور، ولو عبر خوارزمياتٍ ذكية، ما دمنا نحن من يقودها، لا العكس.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة