لم أقتنع أبداً بشيء اسمه العمل، أُفضِّلُ الثراء بلا مجهود لأستمتع بما تبقى من عمري بين شواطئ الكوباكابانا والمالديف وجزيرة بالي، وريف سويسرا.. الشوارع والأزقة، الجلوس على مقاهي اسطنبول (بعد هجرة الأتراك وخلوها منهم) ..الخ. أما العمل فمجبر عليه لأن الحياة بلا عمل تعني حياة بلا مال. والحياة بلا مال تعني عبودية لمن يسوى ومن لا يسوى، وإذا كان مكتوب علينا أن نعيش كعبيد فعلى الأقل يجب أن نختار السيد الأفضل. ونحن لو توغلنا في الماضي السحيق، سنكتشف أن الإنسان البدائي لم يكن يعمل، بل كان يتعايش ليحيا فقط. يصطاد ما يقيم أوده، ربما يزرع قليلاً، ولكنه في كل الأحوال كان مكتفياً بوجوده في الوجود. بحضور باهت وعفوي، دون انفعالات قصوى. ولكن تلك لا يمكن أن نسميها حياة، بل وجود محتضر، مع ذلك فذلك الوجود المحتضر كان يحافظ على أقانيم الجسد الثلاثة التي تجعله محتفظاً بشعوره ككائن (حي). أما اليوم فأنا محكوم بالمؤسسات، المؤسسة الحيوية الكبرى وهي الجسد بأقانيمه الثلاث: (الروح، العقل، الذات)، والمؤسسات الاجتماعية المتعددة التي تبدأ من الأسرة، ثم المؤسسات القانونية، التي تهتم بتوريقنا باستمرار، أي توثيق وجودنا في الورق. فنحن لسنا سوى ورق، واليوم اختفى الورق وأصبحنا مجرد أرقام. وهكذا فنحن نتعرض لمحو الأقانيم ومحو المؤسسات الاجتماعية ببطء. كما يسمينا (ألان سوبيو): (الإنسان القانوني). فالإنسان القانوني هو الإنسان الذي يعلن خضوعه واستسلامه الكامل للمنظومة ذات الشكل الواحد. فبدلاً عن أن تحررنا العولمة فهي تزيد من محونا باستمرار. لأنها عولمة قانونية في المقام الأول، وحيث يكون القانون ينمحي الإنسان القديم أي ذاك الإنسان الذي كان محتفظاً بأقانيمه التي تمنحه شعوراً بأنه كائن (حي). ولكي لا يتمرد الإنسان الموَرَّق، يظل من الواجب تدجينه عبر منح العمل أهمية كبرى، ريادة الأعمال، الاستقرار المالي، الخروج من منطقة الارتياح، أهمية البيروقراطية، عطلة نهاية الأسبوع، الجنس، الذكاء الاصطناعي، التنمية البشرية، الدموقراطية وصناديق الاقتراع، وغير ذلك الكثير من أدوات الإيهام والإخضاع بالإضافة إلى العمليات النفسية الدؤوبة للتوجيه عبر الدعاية والإعلان والإعلام، والسينما، والقنوات الفضائية..الخ. هكذا لا يتم فقط محو الأقانيم واحداً واحداً بل تحويل الإنسان إلى آلة مبرمجة ومحاصرة عبر الخوارزميات الدقيقة. نحن نفقد عفويتنا، كلما أُنتُقِصَت إرادتنا، وهذا المطلوب النهائي. لكن.. من يقوم بكل ذلك؟ من الذي يتآمر ضد نفسه؟ ربما لا أحد.. ربما هذا هو غاية الصيرورة فقط، ومسار فلسفتنا التاريخية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة