تحديد مَنْ وكيف تدار الثروة، هو اقصر الطرق لمعالجة أسباب الحرب يعتبر السبب الجوهري لحرب القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع اقتصادي، أو حول من يمتلك مصادر الموارد الاقتصادية في البلاد، بعد أن تمسكت المؤسسات العسكرية والأمنية بشركاتها واستثماراتها التعدينية، ورفضت بأن تؤول إلى وزارة المالية بحيث تكون وزارة المالية وليّةٌ عليها. ودار جدل سياسي حول الأمر ولم يحسم لصالح ولاية وزارة المالية على المال العام. صراع التحكم!: وبرزت مجموعة الدعم السريع كأكبر مستحوذ لمناجم الذهب المنتجة في دارفور، وكيف إنّها تمكنت من ادارة استثماراتها فيه وتصديرها أو تهريبها للذهب بطريقتها الخاصة. الأمر الذي اعتبرته المؤسسة الأمنية، والمؤسسات المتضامنة معها خطراً عليها، لأنّه يخرجها من دائرة التحكم والسيطرة على تلك المقومات الاقتصادية، وجعلها تتحسس سلاحها، وأطلقت شرارة الحرب لاستعادة استحواذاتها التحكمية، وبصفة أخص مصادر المال. فهو صراع في جوهره حول من الذي يتحكم على الموارد؟!... والتي هي تحكم في السلطة!. ولله الحمد المنّة لم تمس مناجم الذهب في مناطق الطرفين المتحاربين بسوء؛ حرصاً منهما للثروة القومية، أو خوفاً من عواقب مس مصالح دول عظمى مستفيدة. الديك وريشه: ظل الاقتصاد السوداني تتحكم عليه مجموعة من رجال الأعمال من جغرافيا محدودة، لم يتجاوز عددهم المائة رجل أعمال. ويديرون موارد السودان الاقتصادية بذهنية "الديك وريشه" طوال الحكومات الوطنية. وهي الذهنية التي كانت سائدة في جنوب السودان، حينما كان يشتري التاجر الديك من المواطن الجنوبي بمبلغ قرش، ثم يعود يبيع ريش ديكه له بخمسة قروش!. (وبكل أسف انفصل الجنوب، وفقدنا جزء عزيز من بلدنا)... فأولئك رجال الأعمال يحركون كل شيء من أجل فائدتهم، وألّا تمس مصالحهم بسوء، ولهم علاقة متجذرة مع السياسيين وإن تبدلوا، ويعرفون "من أين يؤكل الكتف؟!"، بل صاروا تجار حروب لهم علاقات بتجار السلاح العالمين وبشركات إنتاج السلاح. ويسعون بكل جهدهم اتخاذ القرارات الاقتصادية التي تخدم مصالحهم، وبتآزر الصفوة كيفما كانت الحكومة عسكرية أو حزبية، وكثيرٌ منهم أمراء حروب، وهم المتحكمون في قواعد اللعبة. وتغيرت قواعد اللعبة: لقد أخرجت البادية السودانية أثقالها، وقالت الصفوة ما لها؟!!!.. اعتقد هذا هو أفضل تعبير لوصف هذه الحرب ذات الأبعاد المتشعبة. وهو عنوان كتبه د.عبد الله على إبراهيم لوصف مآلات أحداث الضعين في أواخر ثمانينات القرن الماضي وعن الرق في السودان. يبدوا إنّها أخرجت أثقالها لتعرف ما لها وما عليها!... فبانفصال جنوب السودان بدأت المعادلة تتغير، وبالتالي تحاول ذات المجموعة وضع حد لهذه التحولات، لكن يبدوا أنّ العالم حولنا جميعه تغير، وما عادت الدولة مسيطرة على حدودها الجغرافية ولا السياسية ولا الاقتصادية. وتغيرت قواعد اللعبة والتي جعلت الشركات مزدوجة الجنسيات، وشركات الدول العظمى، هي صاحبة التحكم الأقوى والشامل على كل شيء بما فيهم السياسيين، وستصبح هي المستفيدة الأول من هذه الحرب. الوضع غير مريح: يقال "إنّ الداخل إلى الحمام ليس كالخارج منه" تنطبق هذه المقولة اليوم على النشاط الاقتصادي برمته (التجارة، والخدمات، التعدين، والاستثمار) حيث هناك اختلال في المعادلة. وتسعى القيادات المستفيدة من الحرب إلى اعادة وزن المعادلة على منوالها السابق، لتتحكم على مفاصل الاقتصاد، بحيث يرجح كفتها في السيطرة الأمنية والسياسية، وبأي ثمن، بالتالي تصرّ على مواصلة الحرب، لتُبقي الحال على ما هو عليه ولا تريد أي تغيير وإن نهبت كل ثروات أهل السودان. فكل المؤسسات الاقتصادية كانت ولم تزل يسيطر عليها دعاة الحرب، ويتم تسخيرها في تأجيج الوضع. يقول تبارك تعالى (إذا أردنا أن نُهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم العذاب فدمرناهم تدميراً(16) سورة الإسراء. فالضرورة تحتم اعادة النظر في الأمر بصورة كلية، وتحسين الطريقة التي تسيّر عليها. اعتقد أن اقصر طريق لمعالجة أسباب هذه الحرب هو تحديد من المسؤول عن الثروة القومية؟، وكيف تدار؟، إن كان ذلك بالكوتات أو النسب، وحدود أي مستوى من مستويات الحكم. الدفاع عن المصالح الضيقة: وأمّا من الناحية الاجتماعية فيعتبر السودان بلد متنوع بثرواته ونشاطاته، متعدد في إثنياتة وثقافاتة وكذلك في العادات والتقاليد، ولكن تيارات السياسة و"الرياسة" بدلاً من أن تسخر هذا التنوع والتميّز للتسامح والعيش المشترك، ومصدراً للقوة والمنعة؛ وظفته للتفتيت والتشتيت بدراية أو بغيرها، بإثارة الكراهية والحساسيات بين الجماعات العرقية والدينية، وتصعيد وتيرة الاتهامات بالإهانة والتجريح، والتأليب على بعضها بعضاً. خاصة إنّ هذه التيارات تستخدم شبكاتها الاجتماعية إلى أقصى حد للدفاع عن مصالحها الضيقة. عجزت المؤسسات الخدمية والإجتماعية عن ردم هذه الهوة وفشلت في إدارة التنوع هذا، رغم سنّها للتشريعات وما تعلن من سياسات رصينة، وقرارات في ظاهرها حكيمة. ومن أحاديث المأثورة: (يؤتى السلطان ويفسد أمره من ستة أشياء: الحرمان، والفتنة، والهوى، والفظاظة، والزمان، والخرق)، وهي الآن اجتمعت في حال بلادنا. اختيارات وتمييز: إنّ ممارسة المؤسسات الاجتماعية والخدمية لمهامها لا يتطابق مع رسالتها، وقوانينها وما تعلنه للناس من سياسات وقرارات، حيث هناك ازدواجية معايير واختيارات منتقاة وتمييز. ويستخدم لذلك وقائع زائفة وحيل ماكرة، الأمر الذي جعل بعض فئات المجتمع ناغمة من هذا الوضع، بالتالي زاد من حجم الشقة. وما أمر توزيع المساعدات الإنسانية، وخدمات شركات الاتصال الوطنية وخدمات الكهرباء في ظل الحرب الدائرة ببعيد؛ حيث هناك خيارات بين مواطن ومواطن، ومنطقة ومنطقة، ولاية وولاية، وبذات المعادلة كانت تعمل هذه المؤسسات في وقت السلم. بمعنى إنّها توفر الخدمات لمن يوالي الذين هم في السلطة، أو على رأس المؤسسة. فالخدمة توفر لمن لهم مصالح متبادلة مع القادة، أو تقيّه من شرٍ (مع وضد)؛ وإلّا ليست لك حقوق كمواطن سوداني، فوق هذا وذاك عليك واجبات وإن كان ثمنها روحك، كما هو الحال في هذه الحرب حيث إن غالبية موّتاها وضحاياها من الطرفين من أولئك الناغمين الذين هم على الهامش (محاربين، ومواطنين). ثمن باهظ!: اعتقد إنّ تكلفة الزخيرة، والدانات، والراجمات والقاذفات، والبراميل المتفجرة التي انهالت على الخرطوم وحدها من الجانبين، والتي سمعت دويها بأُذُنيّ رأسي في سنتي الحرب هذه وحدها يمكن أن تغطي متطلبات التعليم الإلزامي في كل البلاد، وتوفر العلاج. حيث لم يتوقف دويّها يوماً واحداً إن لم نقل ساعة واحدة منذ بداية الحرب في الخامس عشر من ابريل 2023م إلى لحظة كتابة هذه السطور، ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً، بما فيها العطلات الرسمية، والعيدين (الفطر والأضحى)، والأشهر الحرم التى كان يتوقف فيها القتال في زمن الجاهلية، أنهاك عن عهد الإسلام، الذي اعتمد حرمتها. تطوير الإدارة: وإذا اضفنا ما أنفق في الولايات الأخرى للحرب، وما أنفق في الحروب السابقة منذ أن نال السودان استقلاله، وتحويله إلى الجانب الخدمي والاجتماعي لصارت البلد دولة عظمى، يشار إليها بالبنان ويتحسب لها في كل شأن عالمي. تخيّل معي كم يقدر ما فقدته البلاد جراء هذه الحرب؟ ومن يتحمّل هذه المسئولية؟ ولماذا لا نوقفها في هذا الحد من الدمار؟ فالحاجة ملحة لتطوير نماذج التفكير في الشأن الإداري. ونواصل *صحفي وأستاذ للصحافة بجامعة الفاشر
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة