الدبلوماسية الاقتصادية: ليس ترفا بل رهان حيوي لمرحلة ما بعد الحرب في السودان.
دخلت الحرب في السودان عامها الثالث حاصدة الاخضر واليابس ومخلفة مأساة انسانية لم يسبق لها مثيل في التاريخ وسط تجاهل كامل من المجتمع الدولي. و لم ترتق جهود واهتمام المجتمع الدولي الي مستوي هذه المأساة الانسانية الهائلة التي تجاوزت كل الحدود. واليوم يشعر السودانيون الذين فقدوا ذويهم وممتلكاتهم وسبل معيشتهم بكثير من التوجس للمجهول وما تحمله قادم الايام ولا سيما في ظل كثافة الشائعات والاخبار المزيفة حول حقائق الامور. وفي المقابل الكثير منهم لهم نظرة ايجابية للمستقبل والامل في اعادة السودان الي مسار السلام والنمو والتنمية وفق استراتيجية تحول دون تكرار هذه المأساة وان السودان حتما سينهض قويا وموحدا اكثر من اي وقت مضي من تحت ركام الحرب كطائر الفينيق الاسطوري وان المرحلة الراهنة ليست زمنا للخوف بقدر ما هي فرصة لاستخلاص العبر وللتكاتف وجمع الصفوف بعد ان كشفت الحرب كل الاقنعة والنوايا وحجم المؤامرات علي الوطن. وعليه ينبغي لنا جمعيًا وفي هذه الفترة الحاسمة والمفصلية من تاريخينا الشروع فورا في تفكيك الصدمة الجماعية والالتفاف حول القواسم المشتركة تكون محورها تغيير العقليات والمؤسسات الايدلوجيات القديمة التي تسببت في الوضع الحالي. وثمة ضرورة ايضا لوضع خارطة طريق لمواجهة التحديات الماثلة والقادمة والتي حتمًا ستقف امام اي جهود صادقة لاعادة البناء والتعمير ولا شك ان ايجاد صيغة سياسية توافقية لحكم السودان هي اكبر تلك التحديات. إذًا فليعمل - كل سوداني وكل سودانية من اجل وحدة وتقدم هذا الوطن الحبيب- كل في مجاله وذلك ليس فقط من اجل اعادة الاعمار بل أيضًا وفاء لدماء الشهداء ونثق باننا اذا توحدنا حول الاجندة الوطنية وتسامينا فوق الانتماءات الضيقة قادرون لتخطي هذه المرحلة الحرجة متماسكين ومدركين بخطورة المرحلة وافضل من ذي قبل. وعليه ينبغي للجميع العمل بصورة موحدة والاستفادة من افضل التجارب والاستراتيجيات لاعادة الاعمار والتعافي والتي تنسجم مع ظروف السودان. وفي هذا السياق تشير تجارب الدول التي مرت بظروف مماثلة بان التعافي الاقتصادي هو الركيزة الأساسية التي ستستند عليه كل عمليات البناء والتعمير. وهنا اعتقد جازمًا بان الدبلوماسية الاقتصادية تعتبر أحد اهم الأدوات الرئيسية التي يمكن أن تساهم في جهود التعافي الآقتصادي بتقديم خدمة لا غني عنها في جهود إعادة قطار الوطن الي مساره عبر الاستغلال الامثل لموراده الهائلة . فان السودان اليوم يحتاج بصورة عاجلة الي حلول سياسية عادلة واطر جديدة وشفافة للدبلوماسية الاقتصادية تتجاوز الوظيفة البروتوكولية وتنسجم مع الاهداف الامنية والسياسية فضلا عن اهداف العلاقات الخارجية وبحيث تشكل اساسا للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي و السياسي . ويعتبر مفهوم الدبلوماسية الاقتصادية قديما يرجع تاريخيًا الي بدايات العلاقات الدولية والتبادلات التجارية ويمكن تعريفه بعملية استخدام الجهاز الدبلوماسي للدولة في خدمة مصالحها الاقتصادية والتجارية وجذب الاستثمارات الاجنبية مع استخدام الادوات الاقتصادية ايضا لخدمة الاجندة السياسية والمصالح الاخري للدولة. واخذت الدبلوماسية الاقتصادية زخمًا قويا مع تسارع عملية العولمة وقيام منظمة التجارة العالمية والتي تعتبر مسرحا للدبلوماسية الاقتصادية المتعددة الاطراف. لذلك، من الضروري في المرحلة القادمة الاهتمام بالدبلوماسية الاقتصادية كمكون اساسي في ترسانة القوي الناعمة ولتحفيز التعاون مع الدول الأخرى وجذب الاستثمارات الأجنبية ونقل افضل الممارسات في المجالات المختلفة التي يمكن أن تساهم في تسريع عملية إعادة الاعمار وتحريك عجلة الاقتصاد المحلي ووضع الحصان امام عربة الوطن. وعليه من الضروري ان تواكب الدولة التطورات الحديثة فيما يتعلق بتكلونيجا المعلومات والاتصالات وكذلك في مجال الذكاء الاصطناعي ووضع استراتيجية للبيانات والمعلومات حول مختلف القطاعات لزيادة فعالية الدبلوماسية الاقتصادية. ونحسب ان البداية تتمثل في اعتماد نهج اقتصادي يتيح الاستغلال الامثل لموراد الدولة وفق اسس وقواعد شفافة ليس فقط للحد من التدخلات الاجنبية ونهب ثروات البلد بل ايضا لقفل الباب امام النخب والأحزاب والجماعات الفاسدة في الداخل. وهذا الامر بدوره يتطلب اعادة النظر في الجدوي الاقتصادية والتجارية للسفارات والبعثات السودانية في مختلف انحاء العالم. فان دور السفارات في ظل المتغيرات المتسارعة علي الساحة الدولية ينبغي ان لا تقتصر فقط علي اعمال الدبلوماسية التقليدية مثل متابعة امور الجاليات ، الجوانب الامنية او التطورات السياسية بين الدول بل تتخطاها الي المجالات الاقتصادية من جذب الاستثمارات والترويج للمنتجات الوطنية والسياحة والبحث الدائم عن الفرص الاقتصادية المتاحة وذلك عملا بالمثل القائل (ولدك غاب شن جاب). اضافة لذلك فان تسخير الدبلوماسية الاقتصادية في جميع مستوياتها لصالح اجندة اعادة الاعمار يمكن أن يكون من خلال توقيع اتفاقيات تجارية مع الدول الأخرى، وتبادل الخبرات والتكنولوجيا، وجذب الخبرات الاجنبية في المجالات الحيوية. كما يمكن أن تشمل الدبلوماسية الاقتصادية تعزيز التعاون الاقتصادي مع المنظمات الدولية والإقليمية من أجل تقديم الدعم والمساعدة في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية.
وعلي ضوء ما سبق نقترح على الحكومة السودانية القادمة بأن تعمل بدون تاخير علي دراسة ومراجعة فلسفة وخطط مختلف سفارات الدولة مع العمل علي تقليص عدد السفارات التي ليست لها مردود اقتصادي ورفد السفارات ولا سيما البعثات الدبلوماسية لدي مقرات الامم المتحدة مثل نيويورك وجنيف وفينيا بالكوادر المؤهلة في مجال الدبلوماسية الاقتصادية وكما يجب على الحكومة أن تعمل بالتوازي على محاربة الفساد المتفشي في جميع مفاصل الدولة ولا سيما تقويم الخلل الواضح في تعيينات وزاراتي التجارة و الخارجية. هذا فضلا عن اتخاذ الخطوات اللازمة لتحسين الحوكمة ومكافحة الممارسات غير القانونية ، وتعزيز القطاع الخاص. والعمل بصورة مدروسة علي تهيئة البيئة الداخلية للاندماج في الاقتصاد العالمي للدفاع عن مصالح الدولة ولتحقيق التنمية المستدامة. بيد ان وضع دبلوماسية اقتصادية ناجحة تدفع بالنمو والتنمية امرا يقتضي التناسق بين الاقوال والافعال وذلك من خلال تحريك ملف الانضمام للنظام التجاري الدولي المتعدد الاطراف. وإجمالًا ، يعد تسخير الدبلوماسية الاقتصادية ضرورة ملحة في السودان لتحقيق هدف إعادة الاعمار والبناء لفترة ما بعد الحرب وتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي كأساس لبناء السلام الدائم . وهذا بدوره امر يتطلب تعزيز القدرات والانتقال بالدبلوماسية السودانية الي مرحلة جديدة تواكب المتغيرات المتسارعة في العلاقات الدولية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة