في ظلِّ التحوّلات العميقة التي شهدها السودان منذ إسقاط النظام السابق، يجد البلد نفسه اليوم أمام مفترق طرق مصيري، تعكسه خيوط متشابكة من الصراعات داخل المؤسسة العسكرية وتنافس القوى المدنية والصراعات الإقليمية في دارفور. تبدو طقوس السلطة متخبطة، إذ اختفى فجأة الفريق أول شمس الدين كباشي من المشهد العسكري دون تفسير واضح، فيما خرج علي كرتي، الزعيم المتنازع على قيادة الحركة الإسلامية، بتصريحات تهزم منطق الوحدة وتفتح الباب أمام سيناريو الانفصال عن دارفور. تكشف حادثة اختفاء كباشي عن عمق الخلافات داخل الجيش. فقد عرف عنه موقفه المتوازن نسبياً بين من يدفعون للمصالحة مع القوى المدنية، وبين جناحٍ آخر يرى في تحالف الإسلاميين متنفساً لاستعادة نفوذهم. وقد سبَق أن شارك كباشي بفعالية في جولات التفاوض الأولى مع تحالف قوى الحرية والتغيير، فتزايدت شكوك أجنحة تحكمها أجندات خارجية—من بعض دول الجوار—حول قدرته على الاحتفاظ بميليشيات الإسلاميين تحت سقف مؤسسة موحدة. وهكذا بدا إبعاده خطوة استباقية لاحتواء أي صوت مدني أو عسكري مستقل يهدد انغلاق السلطة في يد فئة ضيقة. على الجهة المقابلة، جاءت تصريحات علي كرتي لتهزّ حياد الشارع السياسي. ففي كلماتٍ مسرّبة، أعلن أن قضية دارفور لا تستحق البقاء ضمن السودان الواحد، وأن الحركة الإسلامية غير قادرة على الوفاء بوعودها القبلية رغم الموارد المالية الهائلة التي تمتلكها. إن هذا الخطاب لا يهدف فقط إلى تفكيك الثورة، بل إلى تحويل الانقسام الإقليمي إلى ورقة ضاغطة على طاولة التفاوض؛ حيث يراهن الإسلاميون على حكم ذاتي واسع يضمن لهم السيطرة على ثروات الإقليم—كالذهب والمناطق الحدودية—دون استهانة بتداعياته على وحدة الدولة. يتلاقى الاختفاء والتصريح في إظهار دهاليز أزمة أعمق تعصف بالمؤسسة العسكرية. فالجيش اليوم يقع بين مطرقة الضغوط الأيديولوجية لمن يعتبرون أي مساس بترث الحركة الإسلامية خيانة، وسندان رغبة الضباط المستقلين في استعادة دور المؤسسة باعتبارها الحارس الوحيد لاستقرار البلاد. وقد تناقل المراقبون سيناريوهات بدا فيها “التحالف العسكري–الإسلاموي” ذا أرضية مشتركة في مواجهة المد المدني، فيما راح آخرون يحلمون بعودة كباشي وتوازن جديد يفرض تسوية مؤقتة تغلق الجروح قبل أن تتعاظم.
وفي قلب هذا الصراع اللا مرئي، يلعب الإعلام الرقمي دور محرِّض ومرآة تعكس حالة الاستقطاب. استخدم ناشطون هاشتاغات مثل #أين_كباشي ليعبروا عن القلق من عسكرة السياسة، بينما روج آخرون لـ#لا_لبقاء_دارفور كنداء للاحتجاج ضد خطاب الانفصال. غير أن حرب المعلومات هذه ليست بريئة؛ فهي تنشر شائعات عن تحركات كباشي وادعاءات بتمويل الإسلاميين، مفاقمةً الشعور باللايقين ومهددة بإشعال صراعات قبل أن تُحسم على الأرض.
لوطن يعاني من انقسامه، لا بد من مخرج يسبق أي تقاسم للغنائم السياسية. يبدأ هذا المخرج بحوار وطني شامل تحت إشراف دولي يضمن حيادياً الأطراف المتصارعة، ويستمر بإصلاح حقيقي للمؤسسة العسكرية عبر إعادة هيكلة قياداتها بعيدة عن ولاءات حزبية أو قبلية. أما في دارفور، فلا تكفي الشعارات الانفصالية، بل يُحتاج مشروعاً تنموياً عاجلاً يدرأ مظالم التاريخ ويُعطي أهل الإقليم حافزاً للبقاء ضمن دولة متماسكة.
ويبقى السودان أمام خيارين: إمّا الاستمرار في حلقة الصراع التي قد تفضي إلى حرب أهلية جديدة، أو الانكباب على بناء “دولة مرنة” تقرُّ بالاختلاف وتعمل بلا مركزية قاتلة، مع تقنين دستوري يقي البلاد من هيمنة أي أيديولوجيا أو جماعة مسلحة على حساب الهوية الوطنية الجامعة. فالوقت يدقّ جرس الإنذار، والشعب الذي أطاح بديكتاتورية ثلاثين عاماً لا يستحق أن يُثمَّر نضاله بخلافات النخب حول السلطة بدلاً من بناء الدولة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة