19/4/2025 . بوسطن، في الذكرى الثانية لاندلاع حرب 15 أبريل، أطلّ المهندس عمر الدقير، القيادي في حزب المؤتمر السوداني، بخطاب عبّر فيه عن حجم المأساة التي ألمّت بالبلاد، مستخدمًا لغة شاعرية حزينة، تُمسك بجراح السودانيين وتُظهر تعاطفًا لا غبار عليه. غير أن هذه البلاغة الرفيعة، حين انتقلت من توصيف الألم إلى تقديم ما يُفترض أنه "رؤية سياسية"، تحوّلت إلى أزمة إضافية، لا في مضمونها فقط، بل في دلالتها على عمق التراجع الفكري والسياسي الذي يعيشه هذا الحزب، والذي يعكس – في جوهره – مأزق النخب المدنية السودانية كلّها.. لقد كان الخطاب محكم السبك لغويًا، لكنه فارغ سياسيًا. فبينما كان المتوقّع أن تُواجه الحقيقة بما تستحقه من وضوح، قدّم لنا الدقير نسخة باهتة من خطاب تكرّر منذ سقوط البشير: "دعونا ننظر إلى المستقبل"، "فلنتمسّك بالأمل"، "التحوّل المدني الديمقراطي هو الحل". لكن: أي مستقبل؟ وأي تحوّل؟ واي ديمقراطية، واي مدنية؟ وعلى أي أسس؟ دون تحديد جذور الكارثة، ومرتكبيها، ومصادر استمرارها، تصبح الدعوة للمصالحة مجرد عملية تجميل لنظام متهالك. المفارقة أن حزب المؤتمر السوداني كان في قلب السلطة الانتقالية، بل أحد من صاغوا الترتيبات السياسية التي مهّدت لانقلاب 25 أكتوبر. ومع ذلك، لا يزال يتهرّب من مراجعة مسؤوليته، ويصرّ على خطاب إصلاحي خجول، لا يملك شجاعة الطرح الجذري. لم يتحدث الدقير عن طبيعة الدولة التي أنتجت الحرب، ولا عن مركزية الخرطوم التي صادرت الوطن، ولا عن فشل النموذج المدني الذي مثّله حزبه، حين كان في الحكم، في تقديم رؤية تُخاطب الهامش، أو تتجاوز البنية القديمة لقد تحدّث عن "أرضًا سلاح" وكأن السلاح طقسٌ عبثيٌ بلا جذور. لم يسأل: من حمله ولماذا؟ لم يتطرّق إلى تحالفات الجيش مع المليشيات، ولا إلى التمييز البنيوي، ولا إلى إقصاء الأغلبية السكانية عن الثروة والسلطة. دعا إلى "تحوّل ديمقراطي" دون أن يُحدّد الأسس فوق الدستورية التي لا يمكن بناء دولة دونها: علمانية الدولة، حق تقرير المصير، العدالة التاريخية، تفكيك بنية الجيش، إعادة تعريف المركز. إن خطاب عمر الدقير لا يُعبّر عن حالة استثنائية، بل يُلخّص فشل التيار المدني الذي كان في الحكم، ويدّعي اليوم الحياد بين الضحية والجلاد. لم يتقدّم خطوة واحدة نحو الاعتراف بالخطأ، ولا نحو تبنّي مقاربة جديدة. لا ثورية، لا تأسيس، لا اجتراح للأفق. إن الثورة ليست قصيدة عاطفية تُقال كلما اشتد الألم، بل هي قرارٌ بتغيير جذري. ومَن لا يملك شجاعة الاعتراف، لا يستحق أن يكون جزءًا من المستقبل، ولنناقش السيد الدقير:
أولًا: السرد العاطفي وتغييب التحليل التاريخي – من بلاغة "الأمل" إلى فشل الاعتراف: في خطابه بمناسبة مرور عامين على اندلاع حرب 15 أبريل، لجأ المهندس عمر الدقير إلى ما يمكن تسميته بـ"بلاغة العزاء"، لغة شاعرية تُلامس المشاعر لكنها تتفادى العقول، وتستعيض عن النقد التاريخي بإحياء رمزي لمقولات مُستهلكة من شاكلة "إرادة الحياة" و"صمود الإنسان السوداني". وهي مفردات لا تنكر أهميتها الرمزية، لكنها تصبح خطيرة حين تتحول إلى بديل عن التحليل، وإلى ستار يُحجب خلفه سؤال الأزمة الحقيقية. لقد تجاهل الخطاب الجذور البنيوية للحرب: كيف نشأت؟ لماذا انفجرت بهذا الشكل؟ وما علاقة انفجارها بالتراكم المزمن لعجز النخب عن تفكيك الدولة المركزية، وإعادة تأسيس الدولة السودانية على قاعدة المساواة والانصاف والعدالة؟ أسئلة مصيرية، تحوّل عنها الدقير، كما تفعل غالبية القوى المدنية، إلى منطقة الراحة الخطابية، هاربًا من مواجهة مسؤوليته ومسؤولية حزبه – حزب المؤتمر السوداني – في ما جرى بعد سقوط البشير. فبدلًا من مساءلة النفس، أو مراجعة التجربة، لجأ الخطاب إلى تكرار شعارات جوفاء عن "التحول المدني الديمقراطي"، دون تحديد ماهية هذا التحول، ولا الاعتراف بأن هذا الشعار ذاته كان هو الغطاء السياسي الذي مكّن القوى العسكرية من التمدد، وقاد إلى اتفاق الشراكة الذي مهّد لانقلاب 25 أكتوبر، ثم إلى الانهيار الكامل في 15 أبريل. في السياقات الثورية، كما كتب أنطونيو غرامشي، "الكلمات التي لا تُجذّر الواقع، تصبح أدوات هروب لا أدوات تغيير". وهذا بالضبط ما فعل خطاب عمر الدقير: بلاغة مرتفعة لا تواجه الواقع، وأملٌ مؤجل لا يواجه الألم، واستحضار للوجدان بدون أدنى مساءلة للمسار. والثورة – كما نعلم من دروس التاريخ – لا تصنعها القصائد. بل تصنعها قرارات واضحة ومواقف حاسمة، تعترف بالخطأ، وتعيد تعريف الممكن
ثانيًا: الثورة ليست تصويبًا تقنيًا، بل قطيعة معرفية مع النظام القديم: في لحظة تاريخية تتطلب وضوحًا راديكاليًا، ظهر خطاب المهندس عمر الدقير كاستدعاء سطحي لشعارات المستقبل، حين دعا إلى "تصويب البصر والبصيرة نحو المستقبل"، لكنه لم يحدّد ماهية هذا المستقبل، ولا معالم الطريق إليه. بدا كما لو أن المستقبل هو استمرار ما مضى، بلا مساءلة، بلا نقد جذري، وبلا اعتراف بجذور الفشل الذي أوصل البلاد إلى حرب 15 أبريل. لقد كرّر، كما فعل دائمًا، شعار "التحول المدني الديمقراطي"، دون أن يخبرنا من يرفضه؟ ولماذا فشل من قبل رغم أن القوى المدنية كانت شريكًا في الحكم؟ ولماذا لم يُصرّ حزب المؤتمر السوداني – الذي كان حاضرًا ومؤثرًا – على مطلب الثورة الأساسي: "مدنية كاملة"، بدل توقيع وثيقة دستورية تشرعن الحصانة للمجرمين، وتمنح السلطة التنفيذية لقادة الجيش؟ إن "التحول الديمقراطي" ليس عملية إدارية أو فنًا في إدارة الأزمة، بل هو، كما كتب أنطونيو غرامشي، "صراع من أجل الهيمنة على البنية الاجتماعية والرمزية"، وهو ما يتطلب تفكيكًا عميقًا للمنظومة وليس ترقيعها. لكن المهندس الدقير وحزبه، مثل بقية أحزاب النخب، لا يريدون مواجهة هذا الصراع، بل يفضّلون التعامل مع الثورة بوصفها أزمة إدارة، لا قطيعة وجودية مع نظام فاشل بأكمله. - حين يصبح التواطؤ سياسة: الخطاب الذي قدّمه الدقير لا يخرج عن منطق الدعوة الي قبول "الهبوط الناعم"، الذي لطالما مثّل فلسفة القوى المدنية المركزية منذ ما بعد ديسمبر: دعونا نتجاوز الجراح، لنمضي إلى الأمام. لكن إلى أين؟ وعلى أي أجساد نؤسّس هذا التقدم؟ ولماذا نعيد إنتاج نفس الخطاب الذي أدّى إلى سقوط حكومة الثورة في انقلاب 25 أكتوبر؟ ولماذا لا يملك هذا الخطاب الجرأة لتسمية الأشياء بأسمائها: العلمانية، الحق في تقرير المصير، تفكيك الجيش، العدالة التاريخية؟ أليست هذه القضايا هي صميم ما فشلت النخب في التصدي له، لا لعجز في الفهم، بل لأنها تقوّض امتيازاتها؟ إن الاعتراف بأن أزمة السودان تكمن في طبيعة الدولة نفسها لا فقط في شاغليها، هو اعتراف مزلزل، لأنه يعني أن كل ما بنته النخب على مدى عقود – بما فيه حزب المؤتمر السوداني – لا يصلح للبقاء. ولذا فهم يهربون إلى الأمام، يتمسكون بالشعارات الفارغة، ويستدعون "التحول الديمقراطي" كغطاء بلاغي لإخفاء فقرهم التحليلي والسياسي. - بيع الوهم باسم الثورة: في النهاية، ما يطرحه عمر الدقير ليس رؤية جديدة، بل إعادة تدوير للوهم القديم: دعونا نُعيد "أهداف ديسمبر". لكن السؤال المعلق منذ سنوات هو: من أفشل ديسمبر؟ من فوّت الفرصة؟ من سمح للعسكر بالتمدد؟ الواقع أن من أفشل ثورة ديسمبر ليست البندقية، بل القوى المدنية التي ادعت تمثيلها، ثم انقلبت على مبادئها تحت ذرائع الواقعية السياسية، ووقّعت على تسويات مذلة، وساومت على الدماء في مقابل الكراسي، وباعت القصاص في مزاد التسويات المحلية والإقليمية والدولية. إن خطاب عمر الدقير لا يقدم بديلاً، بل يعيد إنتاج الخراب، في نسخة مجملة بالبلاغة. لا مشروع هناك، بل إصرار على الاستمرار بذات الشروط التي أنتجت الخراب، دون اعتذار، ودون مراجعة، ودون وعي نقدي بالتاريخ. وكما قال جورج أورويل: "اللغة السياسية صُممت لتجعل الأكاذيب تبدو صادقة، والقتل محترمًا، ولتعطي مظهرًا للثبات لما هو محض هواء." وهذا بالضبط ما فعله خطاب الدقير.
ثالثًا: مأزق النخب في رفض مواجهة الجذر: ما فشل المهندس عمر الدقير في قوله، هو أن انتشار السلاح في السودان لم يكن يومًا انحرافًا طارئًا عن خيار السلمية، بل نتيجة طبيعية ومباشرة لخذلان سياسي ممنهج، ابتدأ منذ مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965، حين رُفِضَت مطالب الجنوبيين باللامركزية والفيدرالية، وتُوّج برفض النظام البائد والحكومات "المدنية" التي تعاقبت من بعده لأي شكل من أشكال العدالة الجذرية. هي ذات القوى التي قهرت الجنوب، وحرمت دارفور من التنمية، وقمعت هوية جبال النوبة، ونقضت المواثيق التي وقّعتها، ثم عادت بعد الثورة، لا لتصحيح المسار، بل للتحالف مع العسكر مجددًا... باسم "الواقعية" و"الممكن السياسي" خطاب الدقير عن "التحول المدني الديمقراطي" خالٍ من أي مضمون بنيوي أو جذري، لأنه لا يجرؤ على مقاربة القضايا التأسيسية الحقيقية: لا حديث فيه عن العلمانية، ولا عن الحق في تقرير المصير، ولا عن إعادة هيكلة الجيش، ولا عن تفكيك جهاز الدولة العنصرية المركزية. كل ما يقترحه، فعليًا، هو العودة إلى منطق "الجبهة العريضة" الفاشلة، تلك التي ظلت تصادر كل مشروع بديل باسم "الوحدة الوطنية" بينما كانت تُرسّخ قسمة السودان إلى مركز مهيمِن وهوامش مسحوقة عندما يصبح العجز سياسة. حين يتحدث الدقير عن "أرضًا سلاح"، فإنه لا يقدّم اقتراحًا سياسيًا، بل يرفع شعارًا يتجاهل كل سياق. لا يسأل: من حمل السلاح؟ ولماذا؟ ولا يعترف بأن من اضطروا لحمل السلاح فعلوا ذلك بعد عقود من الإقصاء، وبعد أن سُدَّت أمامهم كل السبل السلمية. الأسوأ من ذلك، أنه لا يوضح لماذا لم تُفكك المؤسسة العسكرية عندما كانت القوى المدنية في الحكم، ولا لماذا تمّت شرعنة وجود العسكر في السلطة بمواثيق مختلة كتبها المدنيون بأيديهم علما بان الجماهير كانت خلفهم وكانت مستعدة لتقديم المزيد من التضحيات! يحدثنا عمر الدقير عن "تسوية تاريخية عادلة"، لكنه لا يحدد مَن الطرف الذي سيُقدم التنازلات، ولا ما هي مستحقات العدالة. هل يعرف أن التسوية التاريخية، كما عرفها فلاسفة السياسة من هيغل إلى باديو، ليست مجرد مصافحة بين الأطراف، بل إعادة كتابة العقد الاجتماعي على أسس جديدة كليًا؟ هل يعلم أن التسويات العادلة، كما حدثت في جنوب إفريقيا بعد الأبارتايد، أو في كولومبيا بعد نصف قرن من الحرب، تتطلب أولًا: الاعتراف الكامل بالجرائم، وتفكيك الأجهزة التي ارتكبتها، وإعادة تعريف الدولة، لا إعادة تعويمها؟ تحالف "تأسيس" الذي بني علي أعمدة مشروع السودان الجديد هو التسوية التاريخية: إن تحالف "تأسيس"، بميثاقه الجذري ودستوره الانتقالي، هو أول محاولة حقيقية لصياغة تسوية تاريخية تتجاوز مقولات "الوحدة الشكلية" و"التوافق المزيّف"، وتدخل إلى جوهر المسألة السودانية: الدولة المركزية التي تأسست على العنف والإنكار. لكن حزب المؤتمر السوداني، مثل غيره من أحزاب النخبة، يهرب من هذا المشروع، لأنه يُهدد امتيازاته، ويفضح تواطؤه مع كل ما كان. يريد الدقير أن يعيدنا إلى ما قبل 15 أبريل، وكأن الحرب لم تغيّر شيئًا، وكأن السودان لم يتشظَّ، ولم تنهاَر مؤسساته، ولم ينفضح وهم الدولة الوطنية المركزية. لكنه ينسى أن التاريخ لا يعود إلى الوراء، وأن مشروع السودان الجديد، الذي سُحق على أيدي العسكر والمدنيين المتواطئين معًا، قد عاد اليوم، أشد وضوحًا، وأكثر صرامة، وأقرب إلى الناس! فلماذا إذًا تتكرر هذه النغمة العقيمة: "فلنتحاور"، "فلنهدأ"، "فلنتوافق"؟ لماذا يُطلب منا أن نعفو بلا اعتراف؟ أن نسامح بلا محاسبة؟ أن نُسكت الألم باسم "العبور"؟ أليس هذا – حرفيًا – استدعاءٌ للنكبة باسم السلام؟ كتب إيميه سيزار: ."التسوية التي لا تُولَد من رحم الغضب، لا تصنع سلامًا، بل تؤسس لجولة جديدة من الاستعباد" والتاريخ لن يعفو لمن لا يملك شجاعة الاعتراف، ولا شرف الاعتذار، ولا مشروعًا حقيقيًا للعدالة.
رابعًا: حزب المؤتمر السوداني، من الادّعاء بالحياد إلى الانخراط في استراتيجية الهروب: منذ عام 2019، شكّل حزب المؤتمر السوداني أحد أعمدة السلطة الانتقالية، وتحمّل بالتالي المسؤولية المباشرة عن سلسلة من الإخفاقات المفصلية التي أجهضت المسار الثوري. لم يفلح في إعادة هيكلة أجهزة الدولة، ولم يُظهر صرامة في التعاطي مع تغوّل المجلس العسكري، بل انخرط في تسويات فوقية مع قوى النظام القديم، على حساب مطالب الشارع وقيم الثورة حزب المؤتمر السوداني لم يكن يومًا حزبًا ثوريًا، بل ظل ممثلًا نموذجيًا لما يسميه غرامشي بـ"الليبرالية الإصلاحية المحافظة"، تلك التي تحلم بإعادة تغليف بنية الدولة المركزية في رداء ديمقراطي هش، دون تفكيك جوهرها الاستعلائي. لقد اختار هذا الحزب، طوعًا، أن يُعيد دمج الدولة القديمة، لا أن يبني دولة جديدة. وفي لحظة المفاصلة، بدلًا من الاعتراف بمسؤوليته التاريخية عن الفشل، اختار المهندس عمر الدقير العودة إلى شعارات جوفاء من نوع "أرضًا سلاح"، متجاهلًا أن من حمل السلاح في الهامش لم يفعل ذلك نزوة، ولا تعطشا للدم، بل لأن الدولة التي صاغها المركز حرمته من أبسط حقوقه: الحق في الحياة، التعليم، والصحة، والتمثيل، والكرامة. من يقاتلون اليوم ليسوا مرتزقة؛ بل نتاج حيّ لعنفٍ مؤسسي مارسته نخبة تدّعي الآن "الحياد"، بينما كانت شريكة في بناء ماكينة القمع. إن كان تحالف "تأسيس" قد تجرأ على تسمية الجذور، واقتراح بدائل جذرية حقيقية، فهذا لا يعيبه، بل يكشف أنكم لستم مستعدّين لمواجهة الحقيقة. فالحقيقة ببساطة تقول: - لا وحدة وطنية ممكنة دون علمانية الدولة كضمان للعدالة والمساواة - سلام ممكن دون الاعتراف بحق تقرير المصير للشعوب التي سُحقت أرضها وهوّيتها - لا عدالة انتقالية كافية دون عدالة تاريخية تُصحّح تراكمات القهر البنيوي عبر الأجيال عموما، تحالف "تأسيس" لا ينتظر مصادقتكم، ولا يطلب منكم الإذن. الهامش لا يسعى إلى الإقناع، بل إلى البناء. وهذا البناء لن يتم في قاعات المؤتمرات، بل في الجبهات، والمخيمات، والمقاربات الجذرية! من لم يعد قادرًا على إنتاج مشروع جديد، لن نصمت عليه أن يقف في الواجهة ليسوّق لنسخة مجمّلة من الفشل، بل عليه أن يتنحّى. فالتاريخ لا يُكتب بالبلاغة، بل بالمواقف، والتحوّلات، والجرأة على القطيعة. وكما قال والتر رودني: "الثورات لا تُصنع من صمت الإصلاحيين، بل من قرارات الحالمين الذين ضاقوا ذرعًا بالواقع" والهامش، اليوم، ضاق ذرعا بالواقع وبكل من يزينه بالاوهام، ولم يعد يحلم فقط... بل يبني! . خامسًا: سلام بلا جذور... أم استقرار على مقاس النخب؟ حين يحدّثنا المهندس عمر الدقير عن "السلام المستدام" بوصفه ثمرة "التحول المدني الديمقراطي"، يغيب تمامًا جوهر المسألة: هل يكفي تغيير واجهات السلطة لتحقيق سلام حقيقي؟ وأي سلام يُرجى دون مساءلة تاريخية لما ارتُكب باسم الدولة، ودون اعتراف صريح بالهويات المقموعة، والثقافات التي جرى تهميشها منهجًيا منذ ما قبل الاستقلال؟ يتحدث الدقير وكأن السلام يمكن أن يُنتج في مؤتمر نُخبوي يُدار من ذات العقول التي صنعت الأزمة. وكأنَّ العدالة مسألة نسبية قابلة للمساومة. وكأنَّ حقوق الناس تُناقش تحت سقف "الإجماع"، لا باعتبارها شروطًا أخلاقية ومبدئية لا يجوز المساس بها- "مبادئ قوق دستورية". إنَّ ما يُروّج له حزب المؤتمر السوداني لا يتعدّى كونه محاولة لتطبيع الأزمة. فهم يتحدّثون عن "التحول المدني" دون طرح أي رؤية للعلمانية كشرط لبناء دولة حيادية، ولا يقترحون آليات جادة لتقرير المصير كحق ديمقراطي للضحايا التاريخيين، بل يكتفون بتمرير فكرة أن كل شيء "قابل للنقاش"، حتى كرامة الناس، وحتى إنسانيتهم ان كانوا يعوا معني ما يقولوا! لكن، وكما حذّر الفيلسوف السياسي أكسيل هونيث، فإن "الاعتراف ليس تفضّلًا من الأغلبية، بل شرط لوجود الدولة الأخلاقية نفسها". والسودان، كما هو، لا يزال يتعامل مع شعوبه الهامشية بوصفها مطالِبة بـ"امتيازات"، لا بحقوقها الأصلية! السؤال إذًا ليس كيف نصنع سلامًا "يُرضي الجميع"، بل كيف نضمن أن يكون السلام عدلًا وانصافا لا هدنة بين الظالم والمظلوم، وليستيقظ ويعي الجميع. ومَن لا يجرؤ على طرح هذا السؤال، فلا ينبغي له أن يتحدث باسم المستقبل. لذلك، نرد باختصار: السلام بلا مساواة ليس سلامًا. والتحول دون جذور ليس تحولًا. ومن يهرب من التأسيس الجذري، لا يصنع سلامًا، بل يُراكم أسباب الحروب القادمة!
اخيرا: الثورة لا تُؤجَّل... ولا تُدار بلغة التجميل: في لحظات التحوّل الكبرى، لا يطلب التاريخ من الناس أن يكونوا رقيقين، بل أن يكونوا واضحين. والخطاب الذي قدّمه المهندس عمر الدقير، بكل لغته الأدبية، لم يكن سوى محاولة لتسكين الجرح بكلمات، بينما المطلوب هو مواجهة الجرح بالمبضع. الثورة ليست مناسبة للعزاء ولا منصة للمواساة، بل هي اختبارٌ حاسمٌ للموقف. أن تكون مع المظلوم لا يعني أن تشاركه دموعه، بل أن تبني معه دولةً تضمن ألّا يُظلَم مرة أخرى. إن تحالف "تأسيس"، رغم كل ما يمكن نقده فيه، يمتلك ما لا يجرؤ الآخرون على الإقرار به: شجاعة التسمية، ووضوح المشروع، واستعداد الدخول في القطيعة مع الدولة القديمة، لا إعادة ترميمها. يطرح تحالف تأسيس بوضوح قضايا العلمانية، والعدالة التاريخية، وتقرير المصير، وبناء جيش جديد، لأنها – ببساطة – ليست شعارات، بل أدوات بناء لمشروع سودان جديد ينتمي إلى كل شعوبه، لا إلى نخبة واحدة تتوارث الدولة باسم "التاريخ المشترك." أما خطاب النخبة، كما جاء في كلمات الدقير، فهو لا يزال يدور في فضاء "التحوّل الديمقراطي" المجرد، دون أن يُصارح جمهوره بحقيقة أن هذا التحوّل قد فشل لأنه تجاهل الجذور، وتواطأ مع القشرة، وحوّل الثورة من لحظة تأسيسية إلى مجرد لحظة تفاوض. القيادة لا تُقاس بنواياها، بل بقدرتها على تسمية الجذر، وتحمل ثمن التأسيس. ومن لا يملك الجرأة على ذلك، فعليه أن يبتعد عن مقدمة الصفوف وكما كتب المفكر الكولومبي أورلاندو فالس بيدو: !"الثورات لا تُصنع بتدوير الأمل، بل بتفكيك البنية التي صنعت الألم" لذلك، نقول للأستاذ عمر الدقير، ولكل من يردد خطابه: لا تعودوا بنا إلى نقطة الانكسار. لا تبيعوا للشعب مستقبلًا قد فشلتم في صناعته. ولا تخلطوا بين التوازن السياسي… والتواطؤ البنيوي. الآن هو وقت الشجاعة. و"تأسيس" ليس بديلًا عن أحد... لكنه بديلٌ عن كل ما يجب تجاوزه. والثورات الحقيقية، لا تُدار بالاسترضاء، بل تُكتب بدم الضمير، وشجاعة القرار.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة