في ظل اشتداد الحرب وتعقّد المشهد السياسي والعسكري في السودان، أتى تعيين السفير عمر محمد أحمد الصديق وزيرًا للخارجية في الحكومة الانتقالية بقيادة الجيش، كخطوة لافتة في توقيتها، ومثيرة في دلالاتها. هذا التعيين ليس مجرد قرار إداري بإعادة دبلوماسي محنك إلى واجهة المشهد، بل هو إشارة واضحة على محاولات إعادة تموضع الإسلاميين، أو على الأقل أولئك الذين تم فرزهم سابقًا ضمن مشروعهم، في مفاصل الدولة السودانية من جديد. خلفية السفير- دبلوماسي ببصمة أيديولوجية السفير عمر الصديق ليس وجهًا جديدًا على الساحة. فقد تخرّج في جامعة الخرطوم عام 1979، وتدرّج في سلك وزارة الخارجية منذ التحاقه بها في عام 1980. عمل في إدارات مختلفة، وخدم سفيرًا للسودان في دول ذات أهمية استراتيجية، مثل ألمانيا، بريطانيا، جنوب أفريقيا، الصين، ومندوبًا دائمًا للسودان في الأمم المتحدة بنيويورك. لكن الأهم من سيرته المهنية، هو موقعه في مرحلة الدولة الإسلامية التي أقامها نظام الإنقاذ. فالرجل كان من العناصر المحورية في وزارة الخارجية خلال الحقبة الإسلامية، وشارك في تشكيل خطاب السودان الخارجي الموجّه يومها من منطلقات أيديولوجية واضحة، وإن بعبارات ناعمة ودبلوماسية. ظل الصديق قريبًا من توجهات النظام، حتى وهو يرتدي عباءة المهنية، مما يجعل من تعيينه اليوم امتدادًا لذلك المسار، لا قطيعة معه.
أبعاد التعيين- احترافية مموّهة أم عودة محضة؟ يحاول أنصار الحكومة الحالية تصوير التعيين على أنه استدعاء لشخصية خبيرة ومحترفة، تملك أدوات تفاوض وعلاقات دولية واسعة، وهو ما قد يكون صحيحًا من زاوية مهنية. غير أن العارفين بخلفية الرجل السياسية يدركون أن هذا التعيين يأتي ضمن موجة أوسع من إعادة تمكين العناصر القديمة تحت يافطة "الاستقلالية"، وهو نهج قديم جديد لطالما استخدمه الإسلاميون عندما أرادوا الالتفاف على مطالب الإقصاء والعدالة الانتقالية.
وبذلك، فإن قراءة هذا القرار بمعزل عن السياق السياسي الحالي – حيث يخوض الجيش معركة مصيرية ضد قوات الدعم السريع، وسط تعقيد في المشهد الإقليمي والدولي – تُعد قراءة ساذجة. فالحكومة تسعى لإعادة ضبط علاقاتها الخارجية، وتلميع واجهتها الدبلوماسية، مع الاستفادة من شخصيات لها قبول نسبي في المحافل الدولية، دون التخلي عن جوهر المشروع السياسي الذي تسير عليه.
السياسة الخارجية في مرمى التحولات تعيين عمر الصديق في هذا المنصب في لحظة حرجة من عمر الدولة السودانية يطرح سؤالًا مركزيًا: إلى أي مدى يمكن أن تخدم هذه العودة، بلبوسها الدبلوماسي، مصالح السودان العليا؟
ففي وقت تتفاقم فيه عزلة السودان، وتتسارع تقارير الانتهاكات الإنسانية، وتتصاعد الضغوط الدولية بشأن مآلات الحرب، تأتي شخصية وزير الخارجية كرمز لتوجهات الدولة وخياراتها في مخاطبة الخارج. وتاريخ عمر الصديق لا يشير إلى ميل واضح للقطيعة مع الماضي، بل إلى انغماس طويل فيه.
قد يُحسن الرجل إدارة الملفات من حيث الشكل، لكن الخشية أن يتم ذلك في إطار خطاب تقليدي يعيد إنتاج مفاهيم "المظلومية"، والتشكيك في المؤسسات الدولية، أو السعي لربط السودان بمحاور أيديولوجية بعينها (كتركيا، قطر، وربما إيران)، بما يضعف فرص الانفتاح المتوازن على العالم.
هل السياسة الخارجية انعكاس أم قناع؟ في النهاية، لا يمكن فصل تعيين السفير عمر الصديق عن مساعي النظام القائم لإعادة هندسة الواجهة السياسية عبر استدعاء رموز مألوفة ذات طابع إسلامي بغطاء فني. وهو ما يجعل وزارة الخارجية مرشحة لتكون ساحة اختبار لمعادلة صعبة: كيف يمكن إقناع العالم بأن السودان يتجه نحو الاستقرار والسلام، في وقت تعود فيه شخصيات ارتبطت بالماضي الأيديولوجي إلى مراكز القرار؟
الإجابة على هذا السؤال ستكون حاسمة في تقييم جدوى هذا التعيين، ليس فقط من منظور السياسة الخارجية، بل من منظور ما إذا كان السودان قادرًا فعلًا على القطع مع تاريخه المأزوم، أم أنه يواصل تدوير ذات الوجوه في دورة جديدة من التمويه والاستقطاب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة