دعوة للحوار الجاد وتفكيك المسكوت عنه: عوداً إلى الحقائق التي ظلّت تطرحها الدكتورة حياة عبد الملك منذ سنوات، حين حذّرت، بإصرار، من تجاهل ادعاءات التظلّم الكاذب، باعتبارها الجذور العميقة للصراعات الراهنة، ومنبّهة مبكراً إلى الحرب الكارثية التي نعيش فصولها اليوم .. وقد حدثت. لقد وضعت د. حياة يدها على مكامن الجرح، وكشفت السرديات النخبوية الزائفة التي شكّلت ترسانة سياسية وإعلامية لحركات ما يُسمى بالكفاح المسلح، وأسهمت في صناعة خطاب الكراهية والتشظي الذي دفع السودان إلى حافة الفوضى والدمار. غير أنها، بدلاً من أن تُقابل بحوارٍ عقلاني وموضوعي، جوبهت بهجوم عاطفي أعمى، ومتاريس تزييف تحاول إخفاء الجراح لا علاجها، وتمنع تصحيح المفاهيم، لا لأن الخطأ مستحيل، بل لأن الصدق مكلف. فلتكن الكلمة اليوم جسراً نحو فهمٍ أعمق، لا مدعاة للحرج أو الخصومة. فلعلنا ننجو بالحقيقة، بعد أن أرهقنا الهروب منها.
السودان القديم (٢) التنوع وعوارة المثقفاتية
شهاب طه
عفواً لمرارة الحقيقة، ولكن ليت كان هناك بديل لها، لوضعته. لا أعرف أي “تنوّع” يقصده المثقفاتية والساسة السذج حين يرسمون لوحة سريالية حالمة تحمع كل ذلك التنافر السوداني القاتل والذي بسببه يموت السودانيين الأبرياء الآن وفي كل بقاع سوداننا المنكوب، ليس فقط بسبب الحرب بين فصيلين، بل بسبب تشظي المليشيات وتحولها لأدوات انتقام عرقي. من يظن أن التفاوض بين الجيش وقادة الجنجويد سيوقف الحرب على الأرض فهو جاهل يتجاهل الحقيقة الماثلة، وهي أن السيطرة انفلتت، وأن هناك الكثير من المجموعات المسلحة من بقايا مليشيا الجنجويد أقسمت وجاهرت بأنها لا تعترف بأي قيادات لا تقاتل معها في الميدان. وأنها ماضية في حربها حتى إخر قطرة من دمائها
عوارة التنوع ووهم إدارة التنوع: يتشدق بعض “المثقفاتية” بالتنوع، لكنهم يرفضون الاعتراف بحقيقته القسرية. يُجرّمون من يذكر الغزو التعايشي أو الكنابي، بينما يُمجَّد المدافع عن الغزاة. الأدهى أنهم يغلّفون الظلم بثياب العدالة الاجتماعية، ويُغرقون الحقائق في متاهات فكرية.
فليكن السؤال: هل التنوع السوداني نتيجة تلاقٍ طبيعي، أم غزو وتغيير ديموغرافي فرضه الهوس الديني في عهد المهدية؟ ولماذا نخاف من قول الحقيقة؟ هل لحماية مشاعر الغازي؟ أين العدالة في السكوت عن إبادة مستمرة؟
الخواجات البيض الذين يحكمون كندا، لم يتهربوا من الحقيقة. حكومتهم اعتذرت رسمياً للسكان الأصليين، الهنود الحمر، وأقرّت بالظلم الذي تعرّضوا له، وشرعت في ردّ حقوقهم المُنتزعة، فكانت لحظة صدق أخلاقي وإنساني، مهّدت لتصالح وطني حقيقي.
فلماذا تعجز بعض شعوب سوداننا عن فعل الشيء ذاته؟ لماذا لا تملك شجاعة الاعتراف، ومواجهة التاريخ كما هو، لا كما تُحب أن ترويه بخيالها أو تزيّفه حسب هواها؟ ولماذا لا تُقرّ بضرورة العودة إلى أراضيها الغنية لتُعمرها وتبني فوقها حاضرها؟
هل في ذلك عيب؟ أهو هزيمة؟ أم أن هنالك من هو أولى بالأرض التي هجروها خلفهم؟ أم أن اليقين بالفشل هو ما يجعلهم يتشبثون بأرضٍ ليست أرضهم، ويهربون من مسؤولية إعادة الإعمار في موطنهم الأصلي؟
الغزو من دارفور وغرب إفريقيا: التغيير الديموغرافي المُغيّب
الغزو الذي قاده الخليفة عبد الله التعايشي في أواخر القرن التاسع عشر، والذي فتح الباب أمام موجات هجرة واسعة من دارفور وغرب إفريقيا إلى الشريط النيلي ووسط السودان، لم يكن مجرد حدث سياسي، بل غيّر التكوين الديموغرافي في هذه المناطق بشكل قسري، وأسّس لصراعات اجتماعية ممتدة.
هذا الغزو التعايشي، بجانب أن دافعه كان الهوس الديني، ولكنه يُشبه في جوهره ما فعله الأوروبيون حين اجتاحوا كندا وأمريكا، لكن الفرق أن كندا امتلكت شجاعة الاعتذار لسكانها الأصليين، اعتذاراً ترافق مع اعتراف وطني شامل. أما نحن، فما زلنا نخاف من قول الحقيقة، ونلوذ بالصمت حفاظاً على مشاعر الغزاة، بينما الضحايا يُبادون في الحاضر.
من التنوع إلى الكنابي: الكارثة المستترة
في كندا، وما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يُستقدم العمال الزراعيين الموسميين ليعملوا ويعودوا لأوطانهم دون أن يطالبوا بالأرض، أما في السودان، فقد تحوّلت الكنابي إلى مراكز مطالبة بـ”حقوق تاريخية” زائفة، تغذّيها السرديات العاطفية والاتهامات بالعنصرية ضد من يطالب بتنظيم الوجود وفق القانون. هل من العدل أن يتحوّل “أحفاد الغزاة” إلى ضحايا؟ أن يطالبوا بالمساواة دون اعتراف بالماضي أو احترام للجغرافيا والحقوق الأصلية؟
الخلاصة: السلام يبدأ بالاعتراف لا بالتجميل، وبقول الحقيقة لا بمغازلة الخرافات. السودان ليس بلداً تعددياً ككندا أو سويسرا، بل كيان قائم على تراكم قسري وهجرات همجية موجهة. فهل نجرؤ على قولها؟ ليس كل تنوع نعمة. وأحيانا، يكون التنوع المصطنع سبب الشتات، وبل أثبت أنه تنافر أشعل هذه الحرب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة