أيوا والمراوغة الأخيرة: رد علي الأستاذ مهدي داؤود الخليفة، من يخشى مشروع السودان الجديد؟ 14 أبريل 2025 | خالد كودي – بوسطن ردٌّ على مقال الأستاذ مهدي داود الخليفة، مقرر مؤتمر أيوا 2025 أشكر الأستاذ مهدي داود الخليفة على تفاعله مع مقالي السابق، مع تصحيح بسيط: لست دكتورًا، بل مواطنٌ منخرط في نقد البنية التي أوصلتنا إلى هذه اللحظة التاريخية الحاسمة. هذا الرد كما يخاطب تعقيب الأستاذ مهدي، يخاطب أيضا كل الفعاليات التي تشابهت مخرجاتها مع مؤتمر ايوا. وأبدأ ردي من حيث بدأ هو: الشرعية
أولًا: سؤال الشرعية – من يملكها؟ ومن منحها لمن يتحدث باسمها؟ حين يتهمنا الأستاذ مهدي داود الخليفة، مقرر مؤتمر أيوا، بأننا نخلط بين "الطرح السياسي" و"الشرعية الأخلاقية"، فإنه يُغفل – أو يُغفّل – سؤالًا أعمق وأكثر إلحاحًا: من الذي يملك الشرعية في السودان أصلًا؟ ومن خوّل كل هذه القوى التي تملأ قاعات المؤتمرات يوما بعد يوم، وتسوّق نفسها كممثلة "للوطنية" و"الانتقال"، أن تتحدث باسم الشعب دون تفويض منه؟ هل ننسى أن غالبية القوى السياسية التي قادت مؤتمر أيوا – من حزب الأمة، والشيوعي، والمؤتمر السوداني، إلى البعث وقطاعات من المجتمع المدني – كانت جزءًا من سلطة ما بعد 2019؟ بل شاركت في شرعنة العسكر، ثم صمتت عن انقلابهم، ثم عادت لتطلب تفويضًا جديدًا على أنقاض فشلها السابق! أما من يُعيّر تحالف "تأسيس" لاشرعية له لانه غير منتخب، فليجب أولًا: - هل جاءت حكومة البرهان بصناديق اقتراع؟ - وهل خرجت كل هذه الأحزاب من شرعية انتخابية شعبية، أم من تحاصص نخبوي لا يعرفه الهامش إلا من موقع الضحية؟ - من كتب وثائق "الحرية والتغيير" ومن فصّل المرحلة الانتقالية على مقاسه ثم فرّط فيها؟ إن مفهوم الشرعية، كما كتب ميكافيلي، لا ينبني فقط على القانون، بل على القدرة الواقعية لتمثيل توازنات القوى الجديدة، وإعادة إنتاج الاستقرار انطلاقًا من من يمسكون بالفعل السياسي الحقيقي. أما هوبز، فقد ربط الشرعية بالعقد الاجتماعي القائم على الأمن، لا على التنظير المجرد؛ والسؤال الواقعي اليوم: من يحمي الناس في الفاشر وكاودا وزالنجي؟ ومن يقدّم مشروع دولة للمستقبل؟ تجارب الشعوب، حين تُنتزع الشرعية من المواجهة: هل كانت جبهة التحرير الجزائرية تملك تفويضًا انتخابيًا حين قاومت الاستعمار الفرنسي؟ هل جاء نيلسون مانديلا إلى النضال المسلح من بوابة "التفويض الانتخابي"، أم من خندق تمثيل أغلبية مسحوقة؟ هل توماس سانكارا جاء عبر "صناديق اقتراع"، أم أنه واجه البنية الطبقية الاستعمارية وأعاد تعريف السياسة باسم الفقراء؟ هل انتظر هوغو شافيز ونظام بوليفيا وتيمور الشرقية موافقة النخب، أم انطلقوا من الواقع الجديد؟ الشرعية تُنتزع حين تتعفن المؤسسات القائمة، وتصبح صناديق الاقتراع – كما قال فانون – جزءًا من أدوات الإذعان، لا المشاركة. تحالف "تأسيس" هو هذا الانتزاع لانه: - قوى سياسية–عسكرية–مدنية اجتمعت على ميثاق ثوري واضح، - دستور انتقالي معلن، - ومبادئ فوق دستورية لا تقبل التسويف: المواطنة، العلمانية، اللامركزية، حق تقرير المصير. تحالف "تأسيس": من يحمل السلاح في مواجهة آلة القتل، ومن يملك الرؤية في مواجهة الخراب. وصف "تأسيس" بأنه "تحالف البندقية" فيه مغالطة أخلاقية وتاريخية، لأن البندقية في السودان لم تكن خيارًا، بل نتيجة لانسداد كل أفق آخر، كتب فانون: ."حين يُمنع الشعب من الكلام، يُدفع إلى حمل السلاح" وفي السودان، حيث تقصف الطائرات المدارس، وتُغتصب النساء في الهامش، ويُهجّر الناس من بيوتهم، من السخف أن يُطلب من الضحية أن تنتظر التصويت على حقها في الحياة. بل أكثر من ذلك، فإن الحركات المسلحة، وخاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان، لعبت دورًا حاسمًا في إنهاك نظام الإنقاذ. تقارير وزارة المالية نفسها أقرّت أن النظام كان يُنفق أكثر من 70% من ميزانيته على الحرب، ما أدّى إلى شلل اقتصادي سهّل سقوطه. هل كان يمكن لثورة ديسمبر أن تشتعل لو لم يكن النظام قد استُنزف عسكريًا واقتصاديا من قبل؟ و القوى التي تُطالب "تأسيس" اليوم بإثبات شرعيته، فهي ذاتها: - لم تخض انتخابات منذ 1986 - لم تُجرِ مؤتمراتها العامة - ولم تستطع حماية تحالفاتها بعد سقوط البشير، بل فرّطت فيها "تحت الطاولة". المواطنة لا تُجزّأ – والحقوق ليست خاضعة للتفاوض: من يعارض العلمانية بحجة أنها "مفروضة"، ومن يرفض تقرير المصير لأنه "سابق لأوانه"، لا يدافع عن الديمقراطية بل عن امتيازاته. لأن الاعتراف بالمواطنة المتساوية، كما كتب تشارلز تايلور، هو في جوهره: ."تفكيك للامتياز، لا تمديد له" والعلمانية ليست أيديولوجيا بل شرط قانوني لحياد الدولة، تمامًا كما فعلت الهند وجنوب إفريقيا وأمريكا. ومفارقة أن يُعقد مؤتمر أيوا في ولاية أمريكية تُقدّس حرية العقيدة وفصل الدين عن الدولة، ثم يتحفّظ المؤتمرون أنفسهم على تبني هذا النموذج في السودان، هو مفارقة منطقية وأخلاقية وسياسية.
- تحالف "تأسيس" لا يطلب شرعية من النخب، بل يخلق شرعيته من الأرض. - من يملك مشروعًا مكتوبًا، وميدانًا سياسيًا–عسكريًا، وحاضنة اجتماعية حقيقية، هو من يملك اليوم مفاتيح التأسيس. - أما من يستدعي الماضي، وينتج من فشله ورقة جديدة بلا أدوات، فهو لا يملك لا الشرعية ولا الرؤية. كتب غرامشي: "القديم يحتضر، والجديد يولد... لكن ولادته تتم وسط صراع شرس، ولا ينجو فيه سوى من يملك الجرأة على كسر ما قبله" و"تأسيس" هو هذه الجرأة. أما كل من يخشى الاعتراف به، فليجب أولًا على سؤال بسيط: من أنتم أصلا، ومن خوّلكم لتقرير مصيرنا دوننا؟
ثانيًا: حول "تحالف البندقية" والتعددية السياسية – تناقضات جوهرية ومزايدات أخلاقية مؤجلة: الادعاء بأن تحالف "تأسيس" لا يُمثّل التعددية السياسية لأنه "تحالف بندقية غير منتخب" يتجاهل، عمدًا أو سهوًا، حقائق تاريخية وسياسية وقانونية أساسية عن طبيعة التحولات الجذرية في الدول الخارجة من الصراع، مثل السودان أولًا: من الذي يملك شرعية الحديث عن "العدالة"؟ الاتهام الأخلاقي بوجود أطراف "مدانة بجرائم تطهير عرقي" داخل تحالف "تأسيس" لا يمكن أخذه بجدية حين يصدر من قوى سياسية كانت، حتى وقت قريب، تمثل، تقود او شريكة في حكومات لم تحرّك ساكنًا تجاه المطلوبين للعدالة الدولية. هل نُذَكّر أن معظم الأحزاب التي شاركت في مؤتمر أيوا – من حزب الأمة إلى الشيوعي، والمؤتمر السوداني إلى التجمع الاتحادي – ضمن قوي الحرية والتغيير التي تولّت السلطة بعد 2019، ولم تُقدِّم حتى خطابًا واضحًا بشأن تسليم البشير أو عبد الرحيم محمد حسين أو غيرهم من المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية؟ بل إن بعضها شارك في تفاهمات سياسية مباشرة مع قادة الأجهزة الأمنية المتورطين في جرائم ضد الإنسانية، وشرعن وجودهم في الوثيقة الدستورية، ثم عاد اليوم ليزايد على "تأسيس" في ملف العدالة! في المقابل، فإن تحالف "تأسيس" هو التحالف الوحيد الذي نصّ دستوره الانتقالي بوضوح على ركيزة العدالة الانتقالية والمساءلة وعدم الإفلات من العقاب، بما في ذلك إخضاع كل المكوّنات المسلحة، بما فيها قوات الدعم السريع، وكل من يجرم إلى آليات قضائية مستقلة. فمن الذي يتهرّب من العدالة فعليًا؟ هل من واجهها صراحة وكتبها في دستوره؟ أم من استخدمها للمزايدة، ثم سكت عنها حين جلس على كرسي السلطة، والسؤال الي القوي السياسية التي شاركت في المؤتمر؟
ثالثا: كيف تُبنى التحالفات الوطنية؟ بين القانون والواقع: وصف "تأسيس" بأنه "خليط غير متجانس" من الحركات المسلحة يُظهر قصر نظر في فهم طبيعة التحالفات الوطنية في الدول الخارجة من الحرب. فـجميع مشاريع إعادة التأسيس الكبرى في دول العالم تمّت بتحالفات "غير متجانسة" في بداياتها، وتحوّلت بالتفاوض السياسي إلى تكتلات قادرة على صياغة الميثاق الجديد للدولة: اتفاق السلام الجنوب أفريقي الذي مهّد لنهاية الأبارتايد جمع بين المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) الحزب الشيوعي، ونقابات، وحركات مقاومة مسلحة، - الجبهة الوطنية للتحرير في الجزائر جمعت قوى قبلية، ومثقفين، وعسكريين، ونشأت منها دولة ما بعد الاستعمار - حتى في أوروبا الشرقية بعد سقوط الشيوعية، جاءت حكومات المرحلة الانتقالية من تحالفات متنافرة جمعتها اللحظة التاريخية. وفي السودان، فإن تأسيس ليس مجرد تحالف عسكري، بل وثيقة سياسية وقّعتها 23 حركة وحزب وتنظيم مدني، من مختلف مناطق البلاد، يجمعها مشروع واحد: - علمانية الدولة - العدالة التاريخية - حق تقرير المصير كحق ديمقراطي - نزع السلاح وبناء جيش جديد- - تفكيك المركزية التاريخية فهل يُرفض هذا المشروع لأنه لم يُبْنَ عبر "الانتخاب"؟ هل نُسِي أن السودان لم يشهد انتخابات حرة منذ 1986؟ وهل تمت "تعيينات" قوى إعلان الحرية والتغيير في 2019 عبر صناديق اقتراع أم عبر توافق صفوي داخل المركز؟ الشرعية السياسية في لحظات ما بعد الصراع لا تُكتسب عبر الانتخابات وحدها، بل عبر القدرة على تمثيل مطالب المجتمع، وطرح رؤية شاملة، والتحوّل إلى حاضنة جديدة لتعاقد سياسي جامع.
رابعا: التعددية لا تعني "النقاء" بل اعترافًا بتعقيد الواقع: ما يُسمّى "بتعددية مؤتمر أيوا" لا يتجاوز في الواقع "نخبوية محمية" تدور في حلقة مفرغة منذ 2019، وتُعيد تقديم نفسها في كل مرة بمصطلحات جديدة: "هبوط ناعم"، "توافق مدني"، "مرحلة انتقالية"... بينما الحقيقة أن هذه القوى لم تملك قاعدة جماهيرية مؤثرة، ولا مشروعًا مكتوبًا، ولا شجاعة مواجهة العسكر في الوقت الحاسم. في المقابل، فإن تحالف "تأسيس" لا يدّعي احتكار المشهد، لكنه يفرض نفسه كرقم سياسي وعسكري لا يمكن تجاوزه. وجود "أطراف متهمة" فيه لا يُبطِل مشروعيته، ما دام قد وضع آلية واضحة للعدالة والمحاسبة، على عكس الأحزاب التي لم تحاسب نفسها يومًا على فشلها الأخلاقي والسياسي. كما كتب جون رولز: "العدالة لا تقوم على النوايا، بل على البنية. ومن لا يراجع بنيته، لا يمكنه المطالبة بالشرعية الأخلاقية و"الثورات لا تولد من رحم التوافق، بل من الاعتراف الجذري بأن النظام فشل، وأن التغيير لا يُطلب بل يُنتزع." – تشي جيفارا فمن يخاف من التغيير الحقيقي، سيظل يدافع عن الأدوات التي فشلت، ويتهم من يجرؤ على التأسيس.
خامسا: العلمانية وتقرير المصير – المبادئ فوق الدستورية لا تنتظر التفويض من الجلاد. من المثير للدهشة أن ينعقد "مؤتمر أيوا" لمناقشة مستقبل السودان في ولاية أميركية تُجسّد دستورها وممارساتها مبدأ العلمانية والمواطنة المتساوية، بينما يتهرّب المؤتمرون من الالتزام الصريح بهذه المبادئ داخل السودان. في ولاية أيوا، كما في باقي الولايات الأميركية، يُشكّل التعديل الأول للدستور الأمريكي ضمانًا لفصل الدين عن الدولة، وتكريسًا لحيادية الدولة تجاه جميع المعتقدات، وهو ما يُعدّ حجر الأساس لأي نظام ديمقراطي حديث. فلماذا إذًا، يتردد بعض المقيمين في هذا السياق في تبني المبادئ ذاتها لوطنهم الأصلي؟ وهل المواطنة المتساوية حلال على المواطن الأميركي وحرام على السوداني؟ هذا التناقض يكشف عن جوهر المراوغة النخبوية في السودان، والتي تخشى الاعتراف بالعلمانية ليس من منطلق ديني أو قيمي، بل لأنها تُهدد البنية العميقة لامتيازاتها التاريخية. فـ"المواطنة المتساوية" – كما بيّن تشارلز تايلور – لا تُضيف للمركز، بل تُقوّضه. إنها تعني تفكيك الامتيازات الوراثية السياسية والدينية والإثنية، وبناء دولة لا يتحكم فيها "الأصل"، بل "الحق". أما الزعم بأن قضايا مثل فصل الدين عن الدولة أو حق تقرير المصير لا يجوز "حسمها" إلا في مؤتمر دستوري جامع، فهو إعادة إنتاج للذرائع القديمة التي استخدمتها الدولة المركزية منذ 1956 لتأجيل الاعتراف بالحقوق، وتحويل المظلوم إلى متّهَم، وكانما الشريعة في السودان أتت عبر مؤتمر دستوري!!!. الرد واضح: هذه المبادئ لا تُستجدى، بل تُنتزع. إنها مبادئ فوق دستورية، أي لا يجوز طرحها كخيارات قابلة للتفاوض، لأنها تشكّل شروطًا أولية لأي عقد اجتماعي عادل- انها شروط المواطنة المتساوية، من يرفضها يرفض المواطنة المتساوية. وقد نصّت دساتير عديدة – في ظروف سياسية وأمنية بالغة الصعوبة – على هذه المبادئ، نذكر منها: - دستور الهند (1950) الذي رسّخ العلمانية كضمانة للتعدد الديني رغم انفجار البلاد العنيف عقب التقسيم. - دستور جنوب إفريقيا (1996) بعد الأبارتهايد، الذي أقر العلمانية ورفض الدولة القومية البيضاء لصالح المواطنة المتساوية. - دستور إثيوبيا (1995) الذي منح القوميات حق تقرير المصير، حتى حد الانفصال، كشرط لوحدة طوعية قابلة للحياة - وحتى كندا، ذات الديمقراطية العريقة، اعترفت دستوريًا بحق تقرير المصير في حال قررت أغلبية إقليم كيبيك ذلك، عبر استفتاء واضح وآليات محددة. أما في السودان، فقد أدت عقود من فرض الشريعة الإسلامية (منذ 1983) إلى تمزيق الوحدة الوطنية، وتجريم التنوع، وتبرير القمع السياسي تحت لافتة دينية. فهل ما زال من العقل أن نناقش "إمكانية" فصل الدين عن الدولة، بعد أن جرّبناه أداة للإبادة لا للتقوى؟ الاعتراف بحق تقرير المصير – كذلك – لا يعني الدعوة للانفصال، بل الاعتراف بأن العقد الاجتماعي إذا فشل في ضمان الكرامة والحقوق المتساوية، لا بد من إعادة التفاوض حوله. كما تنص المادة الأولى من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية: "لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي"- وتاتوا في مؤتمر ايوا بتحويل هذا الحق الي البت فيه في مؤتمر دستوري لايعرف احد متي وكيف وأين يقام! ومن سيؤم هذا المؤتمر الدستوري ويتحكم في اذا ماكان السودانيون متساوون في الانسانية! وإذا كان "تحالف تأسيس" قد طرح هذه المبادئ كأرضية دستورية جديدة كأساس لعقد سياسي جديد وكثورة للحقوق المتساوية. كتب لينين عن الثورة: "الثورة لا تنتظر اكتمال الإجماع. بل تفرضه بخلق واقع جديد" وتحالف "تأسيس"، الذي يضم قوى مدنية وعسكرية، جماهير من ضحايا التهميش، وميثاقًا مكتوبًا، لا يطلب شرعية من الخرطوم او بورتسودان ولاالنخب أينما كانوا، بل ينتج شرعية من تحت الرماد، من سيرة النضال، ومن ذاكرة الإقصاء. إن التردد في تبني هذه المبادئ في مثل مؤتمر ايوا ليس من باب "الاحتياط الديمقراطي"، بل هو تعبير عن خوف قديم: الخوف من سقوط امتيازات النخبة التي تحكم باسم الدين أو العرق أو التاريخ. الكيانات التي لاتقبل بمبادي تتضمن العلمانية والمواطنة وحق تقرير المصير، هو كيانات فاقد الأخلاقيه، حتى وإن حازت علي الإجماع. لأن العدالة لا تُقاس بعدد المصوتين، بل بحقوق من لم يُسمح لهم بالتصويت أصلاً.
سادساً: عن التجاهل الرمادي لـ"تأسيس" – بين أخلاق الرفض وعُقد الهيمنة: أن يُقال إن "مؤتمر أيوا لم يتجاهل تحالف تأسيس" ثم يُساق ذلك كدليل على الانفتاح، فهذه محاولة لتجميل إقصاءٍ سياسيّ مقصود، لا تَسلم من التناقض ولا من التاريخ. إن غياب ذكر "تحالف تأسيس" في البيان الختامي، رغم كونه الفاعل السياسي والعسكري الأكثر حضورًا وتأثيرًا في اللحظة الراهنة ومستقبل السودان، ليس مجرد سهو لغوي أو ترتيبٍ في أولويات البيان، بل تعبير عن موقف جوهري من المشروع الذي يُهدد توازن الامتيازات القديمة. إن الدعوة إلى "حوار يشمل الجميع" هكذا ، ليس جديدًا. إنه استمرار للتقليد السياسي السوداني القائم على امتصاص نضال المهمّشين، ثم استخدامه في شرعنة حلول رمادية يحصدها المركز. حدث هذا بعد: - انتفاضة 1964، حين تم احتواء كل أصوات جنوب السودان، واختزلت مطالبهم في دستور بلا اعتراف بالاختلاف - ثورة/ انتفاضة 1985، حين عاد النظام السياسي كما هو، وأُقصيت الحركة الشعبية لتحرير السودان من كل ترتيبات ما بعد الانتفاضة.. - ثورة/انتفاضة ديسمبر 2018، حين وُظِّف نضال الهامش كخلفية دعائية، ثم أُقصيت الحركات المسلحة من ترتيبات السلطة، إلا في صيغ تُبقي الجيش في موقع الهيمنة. والآن، نرى بعض قوى "المدنية الثورية" تعيد نفس المعادلة: تستنجد بالهامش حين تحتاج إلى الشرعية، وتستبعده حين تبدأ ترتيبات تقاسم الغنيمة. :"تأسيس" ليس مشروع ابتزاز سياسي بل عقد تأسيسي بديل إن تحالف "تأسيس" ليس طرفًا عسكريًا عابرًا، بل ائتلاف سياسي–مدني–عسكري تشكّل من رحم الواقع، بعد أن فشلت النخب نفسها في إنجاز أي تقدم منذ 2019. ومن يتحدث اليوم عن ضرورة "الحوار مع حملة السلاح"، دون تسمية "تأسيس"، يريد أن يتحاور مع سلاحٍ دون مشروع، لا مع مشروعٍ يحمل سلاحًا بشروط القانون والدستور والعدالة التاريخية السؤال الذي نطرحه بوضوح هو: هل يعترف المؤتمرون في أيوا أن مشروع "تأسيس" هو نتيجة مباشرة لانهيار مشروعهم، أم أنهم يريدون الالتفاف على هذا الواقع بتكرار أساليب التجاهل والإقصاء نفسها؟ كما كتب مالكوم إكس: !"إذا لم تكن حذِرًا، فإن الصحف ستجعلك تكره المظلوم وتحب الظالم" ومؤتمر أيوا، بكل لغته المنمّقة، لم يتّخذ موقفًا واضحًا لصالح الضحية، بل قرر أن يساوي الجميع تحت راية "الوطنية المشتركة" دون الاعتراف بمَن يدفع الثمن فعليًا، وهذا مؤسف حقيقة. لن ننتظر الذين يعيدون إنتاج الفشل: تحالف "تأسيس" لن ينتظر قوى ثبت فشلها، وعجزها عن قيادة التغيير، وتردّدها المزمن في الاعتراف بالحقيقة. تاسيس يبني في عن عقد سياسي جديد لا يبدأ من نقطة الصفر، بل من دماء المهمشين، وخرائط التغيير، والقوة الجماهيرية الجديدة من لا يريد أن يرى ذلك، إما لا يعرف التاريخ، أو يراهن على استمرار امتيازاته. لكن الثورة لا تنتظر المذعورين. كما قال هوغو تشافيز: ."الذين يخشون التغيير، يخشون الحقيقة... والذين يخشون الحقيقة، يخونون شعوبهم"
سابعا: حكومة بورتسودان ليست "أمرًا واقعًا" بل الوجه الفاشي لنظام الإنقاذ – ومن يتعامل معها بواقعية زائفة، إنما يهرب من التغيير: إن وصف حكومة بورتسودان بأنها "واقع يجب التعامل معه" ليس تحليلًا سياسيًا، بل اعترافٌ ضمني بحكومة بورتسودان و بالهزيمة. فحين يتحوّل الخطاب السياسي من مقاومة البنية السلطوية إلى مهادنتها بدعوى الواقعية، فإننا نكون قد دخلنا في مرحلة الانكفاء الأخلاقي والسياسي، حيث يصبح الاستبداد "شريكًا" لا عدوًا، وحيث تُعاد شرعنة العدو التاريخي للمجتمعات المهمشة باسم "إدارة ما هو ممكن." لكن الحقيقة أن حكومة بورتسودان ليست كيانًا مدنيًا انتقاليًا، بل إعادة إنتاج لمنظومة الإنقاذ ذاتها، بمراكزها الأمنية والعسكرية، وبنيتها الفاشية التي لا تُخفي عداءها لمشروع السودان الجديد. إنها تمثّل الدولة العميقة في أنقى صورها: تحالف الجيش، جهاز الأمن، الإسلاميين، وأذرعهم القبلية والمالية، مع فارق بسيط في الخطاب التكتيكي، لا في الجوهر فمنذ تأسيسها بعد الانقلاب، مارست هذه الحكومة: - التمييز العنصري الصريح ضد النازحين والمهجرين من الخرطوم ودارفور، قوننة القمع عبر قوانين الطوارئ وثقافة والوجوه الغريبة - القاتلة والتفويض المطلق للأجهزة الأمنية. - تسليح المليشيات المحلية تحت مسميات "المقاومة الشعبية"، لإعادة إحياء كتائب الظل الداعشية والدفاع الشعبي. - مصادرة الحريات، وإغلاق الفضاء المدني، ومطاردة النشطاء، وتخوين القوى الثورية. إن من يقف اليوم موقف المساواة بين تحالف "تأسيس" وهذه الحكومة، أو يحاول الجمع بينهما في معادلة "حوار وطني"، يرتكب خيانة معرفية وأخلاقية، لأنه يتجاهل أن بورتسودان تمثل العدو البنيوي لكل ما دعت له ثورات السودان: من أكتوبر 1964 حتى ديسمبر 2018 مهم ان نقول: ان الكثير من القوى، التي كانت جزءًا من (حكومة الثورة) أو تربّت على هوامشها، ترتعب من أي تغيير جذري، لأنها تدرك أن تحوّل الهامش إلى مركز سياسي واجتماعي يعني نهاية امتيازاتها في التمثيل، وفي اختطاف سردية الثورة، وفي إدارة الانتقال من مواقع آمنة. وكما كتب فانون: ."كل نخبة كانت مستعمَرة، تحنّ للاستعمار حين تفقد امتيازها" وأما من لا يزال يحلم بـ"انتقال ديمقراطي" كما كان في السابق في ظل بنية حكومة بورتسودان الحالية، فهو واهم سياسيًا، وخطر موضوعيًا. لأن هذه الحكومة لا تسعى إلى تسليم السلطة، بل إلى إعادة هندسة الدولة لمصلحتها، عبر: - تصفية الوجود المدني الثوري - إعادة تأهيل الحركة الإسلامية بلباس "الممانعة" - شيطنة أي مشروع بديل لا يمر عبر بواباتها لذلك، فإن تحالف "تأسيس" لا يقف في موقع الموازاة مع بورتسودان، بل في موقع النقيض التاريخي. هو مشروع لبناء دولة بديلة، لا إدارة أزمة مع السلطة القائمة. وهو امتداد منطقي لكل التجارب التحررية التي تفهم أن منطق التفاوض لا يكون مع الجلاد وهو لا يزال ممسكًا بالسكين، بل بعد نزع أدواته! وباختصار: الاعتراف ببورتسودان كأمر واقع هو إلغاء لفكرة الثورة من أساسها. ومن يخاف التغيير لأنه يهدد مصالحه، لن يكون شريكًا في بناء وطن، بل عائقًا أمام التاريخ... أخيرًا: لا وقت للطوباوية – هذه لحظة التأسيس لا التفاوض على أنقاض الخراب! المنطلقات الخاطئة تقود دائمًا إلى نتائج كارثية. ومن لا يبدأ من الاعتراف الصريح بأن السودان تغيّر جذريًا، لا بفعل إعادة تدوير شعارات نخب المركز المهزومة، بل بفضل تحوّل نوعي تقوده قوى الهامش المنظم داخل تحالف "تأسيس"، فهو لا يقرأ الواقع، بل ينكره أو يحاول اختطافه باسم "الاعتدال" السودان اليوم لم يعد رقعة يمكن ترقيعها؛ لقد دخلنا طورًا جديدًا من الصراع، لا تُجدي فيه الحلول الوسط ولا التسويات الرمادية. وتحالف "تأسيس" ليس بيانًا إنشائيًا، بل مشروعًا تأسيسيًا متكاملًا، وقّعت عليه حتى الآن أكثر من 23 حركة وحزب وتنظيم من جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق والشرق والوسط والشمال، يحمل رؤية واضحة: العلمانية، اللامركزية، العدالة التاريخية، وحق تقرير المصير كأفق ديمقراطي، لا كشعار مؤقت. هذا المشروع لا يُقدّم نفسه استعراضًا قسريًا للقوة، بل بوصفه كتابة جديدة للتاريخ، من موقع الضحية لا من موقع الوريث الفاشل. قال توماس سانكارا: ."لن تعطينا النخبة إذنًا للثورة... علينا أن ننتزع لحظتنا" وقال تشي جيفارا: ."الثورة فعل شجاع لا يُؤجَّل... لا يُطلب من الطغاة الإذن لتحرير الشعوب" فمن يتحدث اليوم عن "الواقعية السياسية" باسم مؤتمر أيوا، فليجب بوضوح: - ما الجديد الذي أضافه المؤتمر، غير تكرار أطروحات ما بعد 2019 التي سقطت تحت وقع الانقلابات؟ - لماذا فشلت القوى المشاركة فيه حين كانت في الحكم؟ - من الذي صمت أو ساوم حين انقلب الجيش على الثورة؟ - ومن صاغ تسويات "الهبوط الناعم"، ووعد بثورة دستورية ثم صمت أمام الدبابات؟ ما يحدث اليوم ليس حوارًا وطنيًا، بل استمرارٌ لمنظومة سياسية تبحث عن الترميم، بينما ينادي الواقع بإعادة البناء من الجذور. إنها لحظة مفصلية، لا تحتمل المجاملة ولا الإنكار. إن "تحالف تأسيس" لا يسعى للترضية، ولا يطلب اعترافًا من نخب المركز. إنه يحمل مشروعًا متكاملًا لتفكيك بنية الاستعلاء التاريخية، ويستند في شرعيته إلى القوة الشعبية الجديدة، وإلى الواقع كما هو، لا كما تحب أن تتخيله الصالونات السياسية. كتب أنطونيو غرامشي: ."في لحظات التحوّل، يولد النظام الجديد في ظل صراع حاد، ولا يُكتب له البقاء إلا إذا واجه القديم بشجاعة" و"تأسيس" هو هذا النظام الجديد. هو التجسيد السياسي للتحوّل الاجتماعي الذي طال انتظاره، والانقلاب الهادئ–والعنيد–على الخراب المتراكم منذ 1956. أما أولئك الذين لا يزالون يحلمون بديمقراطية تأتي من بين يدي فاشية معلنة، أو يراهنون على إصلاح حكومة بورتسودان كما لو كانت نظامًا شرعيًا، فهم بين اثنين: موهومون... أو متواطئون! إن القبول بـ"إدارة الأمر الواقع" هو قبول ضمني بالقتل، بالإبادة، وباستمرار بنية الغبن والنهب. هو اصطفاف مع الجلاد، ولو بلبوس "المدنية" كتب فرانز فانون: ."من يقف على الحياد وقت الجريمة، يقف مع المجرم" ولذلك نقولها بوضوح لا يقبل المواربة - الوقت ليس لإعادة ترتيب مقاعد قطار يتّجه نحو الهاوية - الوقت ليس لتأجيل ما تأجّل لسبعة عقود - الوقت ليس لانتظار إذن من نخب كانت دائمًا جزءًا من المشكلة الوقت للثورة. والثورات لا تنتظر المتردّدين. النضال مستمر والنصر اكيد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة