ملتقى أيوا وتجاهل الواقع والحقيقة: حين تُعاد صياغة الأزمة لتجنب الجذر. في الوقت الذي يشهد فيه السودان حربًا شاملة، وتفككًا لمركز الدولة، وصعودًا لتحالفات الهامش المسلحة والمدنية في سياق صراع جذري لإعادة تعريف الوطن والدولة، يأتي بيان مؤتمر “ملتقى أيوا للسلام والديمقراطية” ليرفع شعارات “الانتقال المدني”، و”الحوار الوطني”، و”الدولة المدنية الحديثة”... لكن دون أن يتطرق، بجدية و عمق، إلى أهم تحول سياسي-عسكري في السودان منذ الاستقلال: تحالف "تأسيس"!
تحالف “تأسيس”: الحقيقة: لقد وُقّع ميثاق “السودان التأسيسي” في مارس 2025، بين قوى الهامش التي ظلت لعقود تُقصى من السلطة والدولة، وعلى رأسها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، وقوات الدعم السريع، وفصائل من دارفور وشرق السودان، ومكونات مدنية تمثل الجغرافيا المسحوقة من السودان. التحالف، لأول مرة في تاريخ السودان، يقدّم دستورًا انتقاليًا مكتوبًا، يطرح مشروعًا واضح المعالم للدولة، يستند إلى أربعة أعمدة:
١/ العلمانية الكاملة وفصل الدين عن الدولة. ٢/ الحق في تقرير المصير والحكم الذاتي كأساس للوحدة الطوعية. ٣/ اللامركزية السياسية والاقتصادية وتقويض الدولة المركزية النيليّة. ٤/ إعادة تشكيل الجيش الوطني الجديد على أساس تمثيل حقيقي وشراكة عادلة.
هذا هو الواقع الذي بنى عليه السودانيون في الهامش رؤيتهم الجديدة، والذي تجاهله ملتقى أيوا عن عمد!
بيان ملتقى أيوا الختامي كما لخص في مداميك: رؤية إصلاحية طوباوية تتجاهل الواقع وتُعيد إنتاج الفشل. يقدّم بيان ملتقى أيوا للسلام والديمقراطية مثالًا ناصعًا على الخطاب الإصلاحي الناعم، الذي يسعى لترميم ما لا يمكن ترميمه، متغافلًا عن طبيعة الأزمة السودانية بوصفها أزمة بنيوية، لا ظرفية. هذا الخطاب يُعيد استدعاء مفردات "الثورات" السابقة – أكتوبر 1964، أبريل 1985، وديسمبر 2018 – كما لو أن الزمن لم يتحرك شبرا، وكأن شروط التغيير ما زالت قابلة للاشتغال على ذات الأسس القديمة. فالبيان، إذ يدعو إلى: - وقف الحرب فورًا دون أن يطرح آلية حقيقية تعترف بتعقيد موازين القوى الميدانية، - وتشكيل حكومة مدنية "توافقية" دون معالجة البنية العميقة لاحتكار السلطة في المركز، - ويرفض مشاريع التقسيم، دون الاعتراف بأن الوحدة القسرية هي جوهر المأزق التاريخي، فهو عمليًا يُعيد تدوير لغة الهبوط الناعم التي سقطت في كل المنعطفات، من سقوط البشير، إلى انقلاب 25 أكتوبر، إلى الحرب الجارية.
تجاهل تحالف "تأسيس": القفز فوق الواقع لن يُنتج مستقبلًا: من أكثر مظاهر البيان اختلالًا، تجاهله لتحالف "تأسيس"، وكأن هذا التحالف – السياسي والمجتمعي والعسكري – ليس طرفًا رئيسيًا في المعادلة السياسية الراهنة. هذا التجاهل لا يعكس فقط ضيقًا في الأفق، بل أيضًا تجاهلًا مقصودًا لحقيقة أن "تأسيس" ليس مجرد تنظيم، بل تعبير عن توازن قوى جديد على الأرض، وعن تحوّل جذري في طبيعة الصراع، من صراع على السلطة إلى صراع على بنية الدولة نفسها. إن كل حديث عن "حكومة انتقالية مدنية" دون الاعتراف العملي والصريح بتحالف "تأسيس" كطرفٍ مركزي – لا تابع ولا ملحق – هو حديث فاقد للشرعية الواقعية، ومجرد محاولة لإعادة إنتاج مراكز القرار القديمة والتي لايمكن اعتمادها لان تحالف "تأسيس" بصدد تكوين حكومة بدوره!
حكومة بورتسودان: لا إصلاح ممكن في بنية مُسلّحة للقمع: البيان يتغافل تمامًا عن طبيعة حكومة بورتسودان بوصفها امتدادًا مؤسسيًا لنظام الإنقاذ، بأجهزته الأمنية والعسكرية والمجتمعية، والتي أعادت ترتيب أدوات السيطرة لا الإصلاح. فهذه الحكومة ليست سلطة انتقالية، بل: - تُشرعن نفسها عبر قوانين الطوارئ ومراسيم سيادية دستورية، - تدير شبكات أمنية وأجهزة استخبارات مركزية، - تروّج لتسليح المجتمعات القبلية كما في جنوب كردفان، مكررة نماذج الدفاع الشعبي والمراحيل والكتائب الظلية، - وتُغلق الفضاء المدني وتقيّد حرية التعبير، وتُعيد إنتاج منظومة التمكين تحت شعارات "الوحدة الوطنية". إن أي وهم بإمكانية "إصلاح" هذه الحكومة أو إدماجها في عملية انتقال ناعم هو ببساطة تكرار للكارثة. كما كتب فرانز فانون: ."ما من نظام كولونيالي يتخلى عن سلطته بالحوار. التحرير لا يكون بالتفاوض، بل بفرض واقع جديد" تحالف تأسيس هو هذا الواقع الجديد!
إصلاح أم طوباوية مكررة؟ المؤتمرون في أيوا يستدعون الماضي بوصفه أداة للمستقبل، دون وعي بأن السياق قد انقلب كليًا. فالترويج لحل سياسي جامع "يستبعد المؤتمر الوطني" لكنه لا يستبعد بنية الدولة القديمة، هو نوع من الطوباوية السياسية التي تُراوح في المكان، وتعيد توصيف الفشل بأسماء جديدة. هذه هي بالضبط وصفة إعادة التاريخ كمهزلة. إن تجاهل التحولات الكبرى التي فرضتها الحرب، وانهيار مشروع الدولة المركزية، وصعود قوى الهامش، لا ينتج إلا مشاريع ورقية لا تتجاوز غرف الزوم وأروقة النخب القديمة والمنهكة.
تحالف "تأسيس": من فعل المقاومة إلى مشروع الدولة: على النقيض من الاطروحات الإصلاحية، يقدّم تحالف "تأسيس" رؤية جذرية لإعادة بناء الدولة السودانية من الأساس: دولة علمانية، لا مركزية، ديمقراطية، قائمة على الحق في تقرير المصير والعدالة التاريخية لا فقط الانتقالية. هذا التحالف لا يكتفي بإدانة الحرب، بل يطرح برنامجًا للسلام العادل، ويخضع كل القوى – بما فيها الدعم السريع والحركة الشعبية نفسها – لآليات عدالة انتقالية معلنة.
إن محاولة القفز فوق "تأسيس" هي قفز فوق اللحظة نفسها، ونفي لحقيقة أن هذه الحركة هي التعبير السياسي عن المطالبة الجماعية لشعوب الهامش بإعادة تعريف معنى "الوطن" كتب روزا لوكسمبورغ: "الوحدة الحقيقية لا تقوم على الإنكار، بل على الاعتراف المتبادل" لا مستقبل للسودان دون اعتراف واضح بـ "تأسيس"! يجب الاعتراف والعمل على أساس أنَّه لا يمكن تصوّر أي مستقبل سياسي واقعي للسودان دون الاعتراف الصريح والفعلي بتحالف "تأسيس" كطرف مركزي في الصراع وفي صياغة الدولة القادمة، سواء كتحالف سياسي أو كحقيقة ميدانية تحمل مشروعًا واضحًا للعدالة واللامركزية والمواطنة المتساوية- والجميع منتظر هذه الدولة التاسيسية! أي حديث عن ترتيبات انتقالية أو "رؤية وطنية" دون أن يكون "تأسيس" في قلب هذه العملية، ليس فقط غير واقعي، بل سيكون استنساخاً لفشل معلوم النتائج.
لماذا لا يمكن تجاوز تحالف “تأسيس”؟ لأن “تأسيس” ليس مجرد تحالف مصالح كما عهدته السياسة السودانية، بل تحول تاريخي في ميزان الصراع السوداني، حيث أصبحت الأطراف، لا المركز، هي من تُنتج المعادلات الجديدة. لأول مرة، يصبح مشروع الدولة السودانية مطروحًا من الهامش، لا من المركز. وهذا ما لا تجرؤ مؤتمرات النخبة على مواجهته، بل تتجنبه عمداً، تماما كما فعل مؤتمر ايوا. لقد قال جون قرنق ذات يوم: “مشكلتنا ليست الجنوب ولا الشمال، بل مركز قرّر أن يفرض على كل السودان صورة واحدة عن الهوية والسلطة” واليوم، تحالف "تأسيس" يحاول تصحيح هذا الخلل
التجاهل كأداة مقاومة للتغيير إن تجاهل ملتقى أيوا لتحالف "تأسيس"، وعدم ذكره في وثيقة تتحدث عن “الانتقال” و”السلام” و”المستقبل”، ليس سهوًا، بل فعل سياسي متعمد. إنه تعبير عن قلق النخبة من مشروع يتجاوزها، ويعيد تعريف السياسة من خارج نوافذها التقليدية. كما كتب غرامشي: ."القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر أعراض الوحش" و"أيوا" جزء من أعراض ذلك الفراغ، حيث تُعاد محاولة السيطرة على واقع تغيّر، بأدوات باتت عديمة الفاعلية ما الذي يجب فعله؟ ١/ يجب أن تُبنى أي مبادرة سياسية على الاعتراف بتحالف “تأسيس” كمركز فعلي للصراع وصاحب مشروع واضح ٢/ يجب التوقف عن استخدام “الدولة المدنية” كستار للهروب من الاستحقاقات: العلمانية، تقرير المصير، والمساواة الجذرية. ٣/ يجب تسمية الأشياء بأسمائها: من يملك القوة ومن يطرح المشروع ومن يُمثّل الهامش. ٤/ يجب الاعتراف، والعمل على أساس واضح، أن لا مستقبل سياسياً واقعياً للسودان يمكن تصوره دون الاعتراف الصريح والفعّال "بتحالف تأسيس" كطرف مركزي في المشهد، وكمكوّن سياسي–عسكري رئيسي في صياغة مستقبل الدولة. إن أي محاولة لإنتاج 'رؤية وطنية' أو هندسة ترتيبات انتقالية تتجاوز تحالف 'تأسيس' أو تلتف حوله، هي محاولات بلا جدوى، محكوم عليها بالفشل، لأنها تتجاهل القوة الحقيقية التي فرضت واقعاً جديداً على الأرض.
اخيرا: لا وطن يُبنى بالإنكار… ولا مستقبل بلا تأسيس: ما جاء في بيان ملتقى أيوا ليس إلا محاولة لتأجيل التاريخ، واستعادة لغة سقطت مع أول طلقة في هذه الحرب الشاملة. بيان لا يعترف بالواقع، بل يعيد إنتاج الخيال الآمن للنخب المهزومة، ويبحث عن تسوية بلا طرف منتصر، وعن وطن بلا مشروع. لكن اللحظة السودانية الآن لا تحتمل الحياد، ولا تسمح بالرماديات. إنها لحظة فرز صارم بين من يريد ترميم دولة فشلت، ومن يجرؤ على إعادة تأسيسها. السودان لا يحتاج إلى وثائق "توافقية" جديدة، بل إلى تعاقد وطني جريء، يُكتب من أسفل، من دماء المهمشين، من معسكرات النزوح، ومن جبهات المقاومة، ويعترف بأننا في طور تأسيس جديد، لا إصلاح قديم. ده حتي (تروتسكي ) كتب: "الثورات لا تنجح عندما يقودها الذين يخافون من انتصارها" وها نحن اليوم أمام مفترق الطرق: إما أن نعيد إنتاج الماضي بلغة مهذبة، أو ننتقل بشجاعة إلى الحاضر بكل ما يحمله من تناقضات وصراع. تحالف "تأسيس" ليس خيارًا ضمن بدائل، بل شرطًا للعبور نحو الدولة الممكنة. هو التعبير السياسي والمسلح عن الحقيقية التي رفضت الخرطوم الاعتراف بها لعقود: أن السودان لا يُدار من مركز واحد، ولا يُبنى على إنكار الأغلبية.
الذين كتبوا بيان أيوا يعرفون – تمام المعرفة – أن مشروع "تأسيس" هو الوحيد الذي يملك اليوم قاعدة شعبية ومشروعًا سياسيًا متكاملًا، ورؤية مكتوبة لدولة المواطنة، لا دولة الصدقات السياسية. لكن الاعتراف بذلك يتطلب جرأة على خسارة الامتياز، واستعدادًا للمشاركة لا القيادة وحدها. ولهذا يختبئون خلف مفردات "الانتقال" و"الوطنية الجامعة"، وهم يعلمون أن ما فشل بالأمس لن يُصلح الغد. لن يُبنى السودان بإجماع الصالونات، بل بتحالف القوى الحية التي تقاتل وتفكر وتبني. لن يصنع التغيير من يخاف من ملامسته، أو ينتظر توازناً مثالياً لم يأتِ ولن يأتي. وتأسيس، ببساطته الجذرية، يقول ما لا يريد الآخرون سماعه: "إن لم نؤسس دولة جديدة، فسنُدفن تحت أنقاض القديمة" إما تأسيس، أو لا سودان. والزمن لم يعد يحتمل التأجيل. النضال مستمر... والنصر حتمي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة