الكلية الحربية في كادوقلي... حين يُستدعى المهمشون لحماية الامتيازات التي أقصتهم: في إعلان يبدو للوهلة الأولى تاريخيًا، أُعلن مؤخرًا عن فتح باب التقديم للكلية الحربية السودانية في مدينة كادوقلي – قلب جبال النوبة. خطوة وُصفت بأنها انفتاح طال انتظاره على مناطق الهامش، لكنها في جوهرها تعيد إنتاج واحدة من أعتى آليات التوظيف العسكري السياسي التي عرفها السودان الحديث: تجنيد أبناء الهامش لقتال بعضهم، تحت قيادة نخبة لا تزال تحتكر السيادة والقرار في أجزاء واسعة من السودان..
هذا الإعلان لا يأتي من فراغ، بل في سياق تسريبات موثقة عن اجتماعات عقدها عبد الفتاح البرهان مع بعض قادة النوبة، عُرض خلالها تشكيل قوة قوامها 10 آلاف مقاتل، تُوزَّع بين قبائل النوبة والحوازمة، في ما يشبه مشروع تجنيد قبلي، لا مشروع دولة. أسماء مثل مبارك أردول، دانيال كودي، عمر سومي، سرحان كاكدلة، والعمدة محمد الزاكي رحال ليست جديدة على مشهد السمسرة السياسية باسم النوبة، لكن الجديد أن يُطلب من هؤلاء أن يُلبسوا مشروع الحرب ثوب التمكين، ويسوقوا محرقة جديدة لأبناء جلدتهم بوعد الكلية الحربية. لكن المسألة أعمق من قرارٍ طارئ. فهي تضرب بجذورها في تاريخ القوات المسلحة السودانية، التي تأسست منذ الاستقلال على بنية عنصرية هرمية: - الضباط من إثنيات وجهويات محددة في الشمال النيلي، وغالبا ماينحدرون من عائلات ترتبط بالبنية الطبقية والسياسية للمركز. - والجنود من أبناء الهامش، من النوبة ودارفور والفونج والشرق، يُستقدمون لأداء وظيفة القتال دون أفق للترقي الحقيقي، ولا حق في القرار، ولا حصانة في السلام. ولم يكن هذا التوزيع عفويًا، بل تعزز بفعل تديين العقيدة القتالية منذ الثمانينات، حين تم أسلمة الجيش بالكامل في ظل المشروع الحضاري، وتحويل مهمته من حماية الدولة إلى خوض “الجهاد” ضد أبناء الوطن، وتحديدًا في جبال النوبة والجنوب.
ورغم ما يبدو من حضور رمزي لأسماء ضباط مثل شمس الدين كباشي أو كبرون أو كافي طيارة، وغيرهم فإن هذا الحضور يُستخدم كأداة تجميلية وتمثيل ترميزي لا أكثر. فالقرار الحقيقي ظل دائمًا حكرًا على دوائر سلطوية مغلقة، وهؤلاء الضباط لا يُستشارون في ملفات الأمن أو الحرب الاستراتيجية، ولا يُملكون هامش السيادة داخل المؤسسة.
وفي المقابل، وُضِع أبناء النوبة أمام خيارين: إما الحرمان من الوظائف العليا المدنية بسبب التهميش البنيوي، أو الالتحاق بالجيش كجنود بلا سقف ولا حماية. ولهذا، فإن الدعوة الأخيرة للانضمام إلى الكلية الحربية لا تُقرأ إلا كخطوة لتوظيف هذا الواقع الاجتماعي القاسي من جديد – لا لتغييره، بل لإعادة إنتاجه بخدع جذابة مثل "رتب الضباط".
لم تعد المجتمعات النوبية، اليوم، تقع في فخ الشعارات المستهلكة التي لطالما استُخدمت لاستدراج أبنائها إلى معارك لا تخصهم. أصوات العقلاء من السياسيين والمثقفين والناشطين وقادة الرأي تنادي بوضوح: كفوا عن التقديم للكلية الحربية التي تريد منكم أن تتدربوا على قتل ذويكم، لا على حماية وطنكم.
فمنذ الاستقلال، والمركز يعيد إنتاج ذات الخدعة: يدعو المهمشين لحمل السلاح، لا ليحموهم وحسب، بل ليُقحمهم في منظومة قمع لا تسمنهم إلا رمزيًا، وتتركهم في أسفل السلم الاجتماعي فعليًا. والآن، تُعرض "الفرصة" لأبناء النوبة مجددًا، لا من أجل تمكينهم، بل لتجنيدهم في مشروع انهيار الدولة، وزجّهم في حرب أهلية جديدة، يُطلب فيها من الضحية أن يقاتل أخاه، دفاعًا عن بنية أنتجت مأساته!
لكن النوبة اليوم ليسوا بلا ذاكرة. يعرفون تمامًا أن المطلوب ليس إدماجهم في مؤسسات الدولة، بل استهلاكهم كوقود في معركة المركز الأخيرة ضد تفككه. فالمراد ليس تأهيلهم، بل توريطهم. وكما قال ألبير كامو: ."تبدأ الحرية حين نرفض أن نكون أداة" والنوبة اليوم بدأوا حريتهم برفض أن يكونوا أدوات. فالوعي السياسي يتغيّر، والحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال تقف الآن على أرض صلبة، بمشروع واضح لبناء سودان جديد، وتحالف "تأسيس" لم يُعد تعريف الحليف والعدو على أسس إثنية أو جهوية، بل على أساس أخلاقي بوعي جديد – من يقف مع التهميش، ومن يقف ضده وهذا ما لم تفهمه بعد القوى التي تُدير الحرب من غرف الإذاعة الأمنية في بورتسودان: أن الزمن تغيّر. وأن بندقية اليوم ليست شرفًا، إن وُجهت إلى صدور المقهورين...كما كتب فرانز فانون: ."حين يمنحك المستعمِر سلاحًا، فاعلم أنك آخر ما تبقّى له" لقد بدأ أبناء النوبة – كما سائر المهمشين – إدراكًا جديدًا: أن لا خلاص يأتي من داخل مؤسسة قهرتهم لعقود، بل من مشروع سياسي يضعهم في مركز الدولة التي يريدونها، لا على هامش الدولة التي استخدمتهم.
من التجنيد إلى التصفية: النمط المتكرر لتوريط المهمشين في حروب المركز: ١/ الحروب كآلية للضبط الاجتماعي: كتب ميشيل فوكو: “الحرب لم تكن أبدًا مجرد نزاع خارجي، بل كانت أداة لضبط المجتمعات داخليًا” في الحالة السودانية، لطالما استُخدمت الحرب وسيلة لضبط المجتمعات المهمشة، لا عبر التنمية بل عبر التوريط: يتم تسليح مجموعة، ضد أخرى، في خدمة طبقة اجتماعية واثنية ودينية مركزية تبقى فوق خط النار، لكنها تتحكم في إشعاله. من جيوش الجنجويد حينها في دارفور، إلى مليشيات الدفاع الشعبي في الجنوب، إلى الكتائب الأمنية في شرق السودان، عرَف السودانيون هذه المعادلة القاتلة: الفقر والتهميش ثم السلاح ثم الموت من أجل امتيازات لا تصلهم.
: ٢/ التاريخ يعيد نفسه: أبناء الهامش في جيش المركز لا جديد في دعوة أبناء جبال النوبة إلى الكلية الحربية. الجديد فقط أن تُعلن الدعوة من داخل مسرح الحرب في عهد نميري، كما في عهد البشير، جرى توظيف أبناء جبال النوبة كجنود في صفوف الجيش الرسمي لقتال الحركة الشعبية. في التسعينات، لم يكن غريبًا أن تجد أخًا من النوبة يُقاتل شقيقه في الحركة، كلاهما بزيّين مختلفين، وسلاحين مختلفين، لكنهما مدفوعان إلى القتال من مركز لا يعرف معاناتهم، ،لاتزال هذه الظاهرة منتشرة. وقد قال فرانز فانون عن هذا النمط من توريط المهمشين: .“حين لا يُعطى المضطهد طريقًا للحرية، فإنه سيُقدَّم له طريق القتل، وسيسلكه بظن أنه يحرر نفسه”
: ٣/ النخب القديمة و"الحرب بالوكالة ما يجري اليوم، من دعوات ظاهرها التمكين وباطنها التجنيد، هو إعادة تدوير لسياسات النخبة المركزية التي لم تستطع كسب الحرب عبر جيشها النظامي، فأرادت أن تحول المهمشين إلى مرتزقة محليين ضد أنفسهم! كتب المفكر الغيني أمادُو همباطي با: .“حين يُطلب منك أن تقاتل من يشبهك، اعلم أن العدو في مكان آخر” وهذا تمامًا ما تفعله حكومة بورتسودان الآن: تحاول أن توظف الرمزية القومية للكلية الحربية، وتغلفها بإيحاءات الفُرَص، لكنها في الواقع تفتح معسكرًا جديدًا لتصفية أبناء الهامش ببعضهم وهم في مكان اخر.
توظيف الحماسة القبلية باسم الوطنية: تحالف "تأسيس" في مواجهة آلة التفكيك: في واحدة من أقدم استراتيجيات الدولة المركزية، تعيد أجهزة الأمن والمخابرات في حكومة بورتسودان تفعيل سياسة "فرق تسد"، لا بمفردات جديدة، بل بذات السيناريوهات التي حوّلت المجتمعات المهمشة إلى وقود دائم لحروب الآخرين. يُعاد اليوم تسويق الحرب في جبال النوبة باسم "الوطنية"، من خلال تعبئة مجتمعات مثل النوبة والحوازمة – وهما ضحايا تاريخيون لعنف الدولة – بزعم محاربة "التمرد"، دون أي برنامج سياسي أو مشروع مصير. هذا التوظيف ليس جديدًا. فالدولة السودانية كرّرت هذا النمط: - عندما سلّحت مليشيات المراحيل في الثمانينات ضد الحركة الشعبية، ثم تخلت عنها بعد أن أنهكها القتال - حين خلقت قوات "حرس الحدود" في دارفور، التي تحوّلت إلى الجنجويد، لتُترك لاحقًا في مهب المساءلة الدولية. - حين سلّحت الزغاوة ضد الفور، ثم الفور ضد المساليت، لترسيخ الانقسامات كحزام دفاع عن المركز لا عن الوطن. في مواجهة هذا النمط، جاء مشروع السودان الجديد، كما طرحته الحركة الشعبية، لفك هذا القيد. المشروع لا يدعو للتسليح، بل لتحرير المجتمعات من الابتزاز السياسي والتعبئة القبلية، من خلال برامج التعايش الأهلي، والمصالحات المجتمعية، وبناء مؤسسات مدنية ديمقراطية في المناطق المحررة. جوهره ليس احتكار العنف، بل تفكيك أسبابه. وجاء تحالف "تأسيس" كتتويج لهذا المنهج. تحالف سياسي ناضج، يواجه بالوعي الاستراتيجي آليات الاستعمار الداخلي، ويعيد تعريف مفاهيم "العدو" و"الحليف"، و"الوطنية" كأدوات للهيمنة لا كقيم تلقائية. فوثيقته التأسيسية تعلن بوضوح أن التهميش بنية سلطوية تُفكك لا تُدار، وأن الحرب لا تُخاض ضد الجغرافيا، بل ضد من يصنع مأساة البلاد ثم يطلب من الضحية الدفاع عنها. كما كتب فانون: "حين يُطلب من المقهور أن يحمل السلاح باسم وطن لم يعترف به قط، فإن أولى معاركه أن يسأل: أي وطن؟ وأي وطنية"؟ وما يُطلب اليوم من النوبة ومن غيرهم من المهمشين، ليس انخراطًا وطنيًا، بل انتحار سياسي وأخلاقي باسم رايات زائفة. أما تحالف "تأسيس"، فيرد بالوضوح الآتي: لن نكون وقودًا لحرب ليست حربنا. ولن نحارب بأجساد الضحايا ما فشلت النخبة في حله بعقولها. لن نبني دولة على رماد بعضنا، بل على اعترافٍ متبادل، وعدالة مؤسسة، وسلامٍ لا يُصنَع بالسلاح، بل بالحق.
لماذا الآن؟ ولماذا النوبة؟ لأن جبال النوبة لم تعد مجرد جغرافيا مشحونة بالتوترات التاريخية، بل باتت اليوم منطلقا و مركزًا فعليًا لبديل سياسي ومجتمعي عادل، تمثّله الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، في لحظة تُعد من أقوى لحظاتها السياسية والتنظيمية منذ عقود. فلم تعد الحركة مجرد فصيل عسكري، بل مشروع وطن. مشروع “السودان الجديد” الذي بات اليوم، في ظل الانهيار العام للمركز، الأكثر واقعية وإلحاحًا، والأكثر اتساقًا مع تطلعات المجتمعات المقهورة، من جبال النوبة إلى دارفور والنيل الأزرق والشرق الي الوسط والشمال. تتمتع المناطق الخاضعة للحركة الشعبية بدرجة من الاستقرار والأمن والحوكمة الديمقراطية القاعدية تفوق ما هو قائم في العاصمة الخرطوم نفسها أو في مدن الشمال المنهارة تحت وطأة الحرب والنهب والانقسام. لقد أسست الحركة مجالس شعبية (بومات)، ونظّمت مؤتمرات قاعدية، وأنتجت نماذج حكم محلي تُدار فيها القضايا الأمنية والاجتماعية والتعليمية برؤية جماعية ودون قهر، ودون جيش مركزي يُملي سلطته وبقمع باسم الدين ويصفي بناء علي الهوية والسحنة، ولاتزال عمليات البناء قائمة.
ولذلك، فإن سؤال "لماذا النوبة؟" هو سؤال الخوف من هذا البديل: - لأن جبال النوبة أصبحت حاضنة سياسية لمشروع السودان الجديد، لا مجرد معسكرات نزوح - لأن نجاح التجربة المحلية للحركة يشكل تهديدًا مباشرًا لنموذج الدولة الأمنية الذي تتمسك به النخبة في بورتسودان - لأن توقيع الحركة على تحالف "تأسيس" شكّل لحظة فارقة أعادت تعريف من هو العدو، ومن هو الصديق، لا وفق منطق الهوية أو الخطاب، بل وفق مبدأ الانحياز للمواطن، والعدالة، والمدنية - لأن "تأسيس" بدأ، لأول مرة، بناء سلام داخل المجتمعات في الهامش، بدلًا من فرضه من أعلى، ما يعني تجفيف مصادر التجنيد للمركز من خلال المصالحات الأفقية لا التسويات الفوقية. وهذا ما يُرعب السلطة المركزية وسدنتها: أن مشروع السودان الجديد لم يعد شعارًا، بل ممارسة على الأرض، تزداد قبولًا وفعالية، فيما تفقد الخرطوم سيطرتها، وتتحول لحكومة محصورة في قصور فنادقها. إن ما يُروّج له من “تجنيد” أبناء النوبة في الكلية الحربية ليس إلا محاولة لإجهاض هذا الصعود، عبر زجّ الشباب في حرب لا تمثّلهم، ضد حركة تُعبّر عنهم. إنها ليست تعبئة وطنية، بل مؤامرة ومحاولة لتفتيت ما تبقّى من الوعي الجديد في الهامش مصيرها بالفشل الحتمي كغيرها. وكما قال المفكر الجنوب إفريقي ستيف بيكو: .“أسوأ ما يمكن للجلاد أن يفعله، هو أن يجعل الضحية تطلق النار على أحلامها بنفسها” ونحن نعرف الآن من يقف ضد تلك الأحلام، ومن يحملها نحو الضوء!
ختامًا: لا وطن يُبنى على جثث المهمشين: ما يُعرض اليوم على أبناء جبال النوبة من دعوة للالتحاق بالكلية الحربية ليس شرفًا عسكريًا، بل فخًا سياسيًا. ليس تمكينًا، بل إعادة إنتاج لمأساة قديمة، عنوانها استخدام المهمشين كسلاحٍ ضد أنفسهم، لصالح ذات الدولة التي حرمتهم من الحق في المواطنة، والتنمية، والمكانة. العدو الحقيقي لأبناء جبال النوبة، ولجميع السودانيين المهمشين، لم يكن يومًا في جغرافيا الهامش، بل في بنية الدولة العنصرية، وفي الأيديولوجيا التي تحكمها من بورتسودان اليوم، كما كانت تحكمها من الخرطوم بالأمس. الدولة التي تُقصيك ثم تطلب منك أن تموت دفاعًا عنها، لا تستحقك. إن من يسعى بصدق لشرف الدفاع عن الوطن، فمكانه هو الجيش الشعبي لتحرير السودان، لا الكلية الحربية التي أُعيد افتتاحها لتخدير الوعي وإعادة تدوير الكارثة. وكما كتب جورج أورويل: "أسوأ الحروب هي تلك التي يُطلب من المقهورين خوضها باسم القاهر" ولذلك، فإن على المجتمعات النوبية أن تقول: نحن لسنا وقودًا لحروب غيرنا. ولا نريد بندقية، بل مشروع دولة يعترف بنا، ويعيد تعريف الوطن ليكون لنا، لا علينا.
فمن أراد الشرف، فليحمله مع الذين يواجهون الظلم، لا مع الذين يصنعونه
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة