المسؤولية الجنائية والأخلاقية للتحالفات السياسية والعسكرية، قراءة قانونية في ضوء تحالف "تأسيس" السوداني:
8/4/2025 خالد كودي ، بوسطن
في قلب النزاع السوداني الحالي، لم تعد التحديات القانونية محصورة في الانتهاكات نفسها، بل اتسعت لتشمل واحدة من أعقد المسائل: هل تُحمَّل التحالفات السياسية والعسكرية مسؤولية جماعية عن الجرائم التي قد يرتكبها أحد أطرافها؟ وهل تمتد هذه المسؤولية إلى أفعال حدثت قبل الاتفاق، أم تبدأ فقط بعد التوقيع؟ ثم، متى تتحول المسؤولية الأخلاقية إلى مسؤولية جنائية قابلة للمساءلة أمام القانون الدولي والمحاكم المختصة؟
هذه الأسئلة تكتسب راهنيتها مع توقيع تحالف "تأسيس" في 17 مارس 2025، بين الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، وقوات الدعم السريع، وعدد من القوى السياسية والاجتماعية والعسكرية، في لحظة سياسية حرجة، فجّرت جدلاً واسعاً تحاول فيه جهات بعينها توظيف المأساة لا خدمة للعدالة، بل لضرب التحالف سياسيًا عبر خلط الأوراق وتشويه المواقف. لكن هذا الجدل لا يجري في فراغ، بل يتحرك في فضاء سياسي شديد التسمم، تهيمن عليه حكومة بورتسودان، بكل ما تملكه من أدوات أمنية واستخباراتية، تتقن سياسة "فرّق تَسُد" حينًا، وشراء الذمم حينًا آخر، وتستخدم بروباغندا بلا ضمير لنشر الأكاذيب والتقارير الكيدية ضد الحركة الشعبية، باعتبارها الحامل الأخطر لمشروع السودان الجديد، والناطق الأصدق باسم الهامش والمهدد الحقيقي لمشروع البرهان وكتائب الإسلاميين ومراكز القوي والمتواطئين بتعدد مصالحهم.
وفي هذا المناخ، ظهرت جماعات متخصصة في تجهيل الرأي العام، تعتمد على تسويق معلومات مضللة ومنشورات مفبركة، تخلط بين الاتهام والتحريض، وتبث بيانات كاذبة تُنشر باسم مؤسسات أو أفراد، معظمها يخدم مصالح انتهازية أو أيديولوجية، لا علاقة لها بحماية الضحايا أو السعي للعدالة.
إن البلاغات الكيدية والتقارير الملفقة لا تُنقذ الضحايا، بل تضرهم، لأنها تزرع الشك في النظام العدلي برمته، وتحوّل الجريمة إلى أداة ابتزاز سياسي، لا إلى محل مساءلة قانونية عادلة. لكن هذه المناورات لا تمر على القضاء الدولي. فالمحاكم الدولية، وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية، تمتلك آليات قانونية وتحقيقية صارمة ومحترفة، وخبراء قادرين على التمييز بين الدعوى الجادة والادعاء الكاذب، وبين من ارتكب، ومن سكت، ومن شارك، ومن تصيّد. وهذا المقال لا يُكتب من موقع الإنكار أو التبرير، بل من موقع تحليل المسؤولية القانونية في ضوء النصوص الدولية، وسوابق القضاء الجنائي الدولي، لا في ظل الضجيج الإعلامي أو الابتزاز الأخلاقي.
أولاً: الطبيعة القانونية للتحالفات السياسية والعسكرية: من منظور القانون الدولي، التحالف السياسي أو العسكري لا يُنشئ بذاته مسؤولية جنائية جماعية أو آلية للتبعية الجنائية. فالمسؤولية الجنائية، وفق المادة 25 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، هي مسؤولية شخصية وفردية، ولا تنتقل تلقائيًا من طرف إلى آخر داخل تحالف، إلا إذا توفرت شروط قانونية محددة، مثل: - إصدار أوامر مباشرة لارتكاب الجريمة؛ - المشاركة المادية في تنفيذها؛ - التواطؤ أو التحريض الصريح؛ - العلم بالجريمة والامتناع المتعمد عن الإبلاغ أو المحاسبة (Duty to Prevent or Punish) فقط إذا توفرت هذه العناصر، يمكن الحديث عن مسؤولية قانونية للطرف غير المباشر. وهذا المبدأ هو ما كرسته محكمة نورمبرغ، ومحكمة رواندا، ويوغوسلافيا، والممارسة القضائية لمحكمة الجنايات الدولية الخاصة بسيراليون.
ثانيًا: هل التحالف مسؤول عن جرائم أحد أعضائه قبل التوقيع؟ القاعدة القانونية المستقرة أن المسؤولية لا تُسقط على الماضي ما لم يكن التحالف تغطية مقصودة لجريمة قائمة أو اتفاقًا استيعابيًا مبنيًا على القبول الضمني لجرائم سابقة. بالتالي: - لا يمكن تحميل تحالف "تأسيس"، أو الحركة الشعبية، أو أي طرف آخر، مسؤولية قانونية عن الجرائم التي ارتكبها الدعم السريع قبل 17 مارس 2025، ما لم تكن هناك أدلة على أن هذه الأطراف: - كانت على علم بها بشكل مؤسسي؛ - وافقت عليها؛ - أو شاركت فيها مباشرة أو بالصمت المقرون بالعلم. وهذا ما لا يتوفر في الحالة السودانية. بل إن الميثاق التأسيسي ذاته ينص على رفض الإفلات من العقاب، وتحقيق العدالة، وإنهاء التمييز البنيوي، وإعادة بناء القوات المسلحة على أسس مهنية.
ثالثًا: المسؤولية بعد التوقيع – أين تقف الخطوط القانونية؟ بعد توقيع ميثاق التحالف، تَبرز مسؤولية مزدوجة: - أخلاقية–سياسية: أي تحالف سياسي يحمل مسؤولية أدبية إذا لم يتخذ موقفًا واضحًا من التجاوزات التي تقع بعد توقيع الميثاق، خاصة إذا ما تكررت أو كانت ممنهجة. وهنا تُختبر مصداقية المبادئ المعلنة، مثل "عدم الإفلات من العقاب"، و"إعادة تأسيس الدولة على أسس العدالة التاريخية." - قانونية–جنائية: ولكن من منظور القانون الجنائي الدولي، لا تُحمّل أي جهة المسؤولية لمجرد الانتماء لتحالف، إلا إذا ثبت بقرائن قوية أنها: شاركت فعليًا؛ أو سكتت وهي تعلم؛ أو وفّرت غطاءً سياسياً أو لوجيستيًا للانتهاك. وفي هذه الحالة، يُمكن أن تتحول المسؤولية من مستوى أخلاقي إلى جنائي.
رابعًا: هل الحركة الشعبية مسؤولة عن جرائم الدعم السريع؟ قبل توقيع الميثاق: لا. - لا توجد أي وثائق أو تصريحات أو مواقف تُثبت أن الحركة الشعبية دعمت أو وافقت أو شاركت أو التزمت بالصمت تجاه انتهاكات الدعم السريع خلال الحرب. بعد التوقيع: فقط إذا توفرت شروط معينة: - إن ارتكبت قوات الدعم السريع جريمة بعد 17 مارس، فإن الحركة الشعبية لا تُسأل عنها قانونياً إلا إذا ثبت أنها أُبلغت بها وسكتت، أو أنها وفّرت غطاء سياسياً للفاعل. ومن المعروف أن الحركة الشعبية تتمتع بسجل طويل من الالتزام بالقانون الإنساني الدولي، وتمتلك آليات داخلية للمساءلة والانضباط العسكري.
خامسًا: نماذج مقارنة في القانون الدولي - تحالف تشرشل مع ستالين لم يُحمّل بريطانيا مسؤولية عن المجازر الستالينية؛- - نيلسون مانديلا تحالف تفاوضياً مع نظام الأبارتايد دون أن يكون مسؤولاً عن جرائمه؛ - تحالف الغرب مع طالبان في الثمانينات لم يجعل منهم متواطئين مع أيديولوجية طالبان وهكذا يتضح أن القانون الدولي يفرّق بوضوح بين التحالف لأجل غاية سياسية، والمشاركة في جريمة، سواء كانت مباشرة أو بالتواطؤ.
سادسًا: توظيف الاتهام كتكتيك دعائي وتشويهي في جزء واسع من الخطاب السوداني الراهن، لم تعد مأساة الضحايا تُستدعى لبناء العدالة، بل يُوظَّف الألم الإنساني بوصفه ذخيرة في المعركة السياسية، وتُحوَّل التهم إلى أدوات تشويه ممنهجة ضد الحركة الشعبية أو تحالف "تأسيس"، بمجرد توقيعهم على ميثاق مشترك مع طرف مثير للجدل، دون فحص للسياق أو مضمون الاتفاق. ما نشهده ليس نقاشًا قانونيًا جادًا، بل تكتيكًا بروباغنديًا كلاسيكيًا يقوم على: - الربط الاعتباطي بين الوقائع: بحيث تُحمَّل الحركة الشعبية أوزارًا لم ترتكبها، لا في الزمن، ولا في الفعل، ولا في الموقف. - التلفيق بالتعميم: وهو أسلوب معروف في الدعاية السياسية، حيث تتحول النبرة من التحقيق إلى الإدانة، ومن الوقائع إلى النوايا. - التضليل الأخلاقي: باستخدام خطاب وصائي يقوم على المبالغة في رعاية حقوق الضحايا، بهدف تفريغ المشروع التحرري من شرعيته، عبر تقنيات التشكيك لا المساءلة. هذه الممارسات تتقاطع بوضوح مع ما وصفه علماء الإعلام السياسي بأنه "التشويه الرمزي للأطراف الثورية" ، (symbolic delegitimization) وهي تقنية تقوم على تلويث صورة الخصم بخطاب أخلاقي ظاهر، يخفي داخله أجندة سلطوية خالصة. وغالبًا ما تصدر هذه الحملات من دوائر النظام القديم، كحكومة بورتسودان، من توظفهم، اوالمتواطئين معها، أو من الأطراف الخائفة من سقوط المركز، فتسعى إلى إضعاف التحالف الجديد بتحريف نواياه، واختزال مشروعه، وربطه قسرًا بجرائم لم يكن جزءًا منها.
لكن الحقيقة القانونية تبقى راسخة: تحميل أي طرف أوزار طرف آخر، دون إثبات مباشر للعلم، أو المشاركة، أو التواطؤ، هو تزوير قانوني، لا محاسبة. وهذه الحملات لا تخدم العدالة، بل تخدم أعداءها، وتفتح الباب لإفلات الجلادين الحقيقيين من العقاب، تحت غطاء التشويش الجماعي. وكما كتبت إيلا شيلسنجر في دراستها عن الذاكرة العدلية والبروباغندا: "حين تتحوّل الدعوى إلى خطاب اتهام شامل، فإن أول من يتضرر هو الضحية، لا الجاني"
الخاتمة: في قضايا المسؤولية الجنائية، لا مكان للرغبات الشخصية، ولا تُؤخذ الوقائع بمقاييس الانفعال أو الاصطفاف السياسي. فالقانون الدولي، وخاصة القانون الجنائي الدولي، قد تطوّر ليعتمد على أدلة واضحة، ونية جنائية مثبتة، وسلسلة مسؤولية قابلة للتحقيق، لا على المزاج العام أو الحملات الإعلامية أو التهم الجاهزة. والمحاكم الدولية والهيئات القانونية المختصة – وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية – لا تخضع للابتزاز ولا للتسييس الشعبوي، ولا تحرّكها البلاغات الكيدية، لأنها محصنة بمنهج قانوني صارم، وبخبرات قضائية وأكاديمية رفيعة. فهؤلاء القضاة والمدّعون العامّون، ومن خلفهم أجهزة التحقيق، يعرفون جيدًا الفرق بين التضليل القانوني والدعوى الجادة، وبين التحالف السياسي والاشتراك الجنائي، وبين الصمت السياسي والمساءلة القانونية. وفي الحالة السودانية، مهما تعقّدت المشهدية، فإن القانونيين المتمرسين في المحاكم الدولية سبق أن تعاملوا مع حالات مماثلة من النزاعات الأهلية والتحالفات غير المتجانسة، في يوغوسلافيا ورواندا والكونغو وسيراليون، ونجحوا في تمييز المسؤولية بدقة وعدالة.
ولهذا، فإن محاولة استخدام “المسؤولية الأخلاقية” كسلاح لتجريم جماعي لتحالف مثل "تأسيس" أو لتشويه الحركة الشعبية لمجرد توقيعها على ميثاق، هو اختزال مخل، لا يصمد أمام أبسط اختبارات النزاهة القانونية. فالقانون لا يدين بالقرابة، بل بالمسؤولية المقترنة بالفعل، والدراية، والنية. وأي مشروع وطني يُبنى على العدالة، لا يمكن أن يُدار بمنطق الكيد، أو الخلط المتعمد، أو الهندسة السياسية للاتهام. إن الطريق إلى السودان الجديد لا يمر عبر التوظيف الانفعالي للعدالة، بل بالمساءلة النزيهة، القائمة على قواعد القانون، لا شهوة التشهير. وكما قال القاضي ريتشارد غولدستون، المدعي العام لمحكمة يوغوسلافيا السابقة: "العدالة الحقيقية لا تُبنى على الانتقام، بل على التمييز بين من أمر، ومن نفذ، ومن سكت وهو يعلم، ومن وقف وواجه".
قائمة بالمصادر التي تدعم الحجة المتعلقة بالمسؤولية الجنائية الفردية في سياق التحالفات السياسية والعسكرية، مع الروابط المباشرة لكل مصدر: - المسؤولية الجنائية الفردية وفقًا للمادة 25 من نظام روما الأساسي: توضح المادة 25 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن الشخص الذي يرتكب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة يكون مسؤولًا عنها بصفته الفردية وقابلًا للعقاب. الرابط: ihl-databases.icrc.org/en/ihl-treaties/icc-statute-1998/article-25 - مسؤولية القادة والرؤساء وفقًا للمادة 28 من نظام روما الأساسي: تنص المادة 28 على أن القادة العسكريين والرؤساء يتحملون المسؤولية الجنائية عن الجرائم التي يرتكبها مرؤوسوهم إذا كانوا على علم بها ولم يتخذوا التدابير اللازمة لمنعها أو معاقبة مرتكبيها. الرابط: ihl-databases.icrc.org/en/ihl-treaties/icc-statute-1998/article-28 - تأثير محاكمات نورمبرغ على القانون الجنائي الدولي: أكدت محاكمات نورمبرغ مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، حيث تم محاكمة الأفراد على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بغض النظر عن مناصبهم الرسمية. الرابط: roberthjackson.org/speech-and-writing/the-influence-of-the-nuremberg-trial-on-international-criminal-law/ - إصدار المحكمة الجنائية الدولية لمذكرات توقيف بحق قادة إسرائيليين وقادة من حماس: في 21 نوفمبر 2024، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بالإضافة إلى قائد الجناح العسكري لحماس محمد ضيف، بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال النزاع في غزة. الرابط: reuters.com/world/icc-issues-arrest-warrants-israels-netanyahu-gallant-hamas-leader-2024-11-21/ توضح هذه المصادر الأسس القانونية للمسؤولية الجنائية الفردية في سياق التحالفات، وتبرز كيفية تطبيق هذه المبادئ في الحالات الواقعية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة