تشهد الساحة الثقافية والسياسية في السودان صراعات داخلية عميقة لا تقتصر على اختلاف الأفكار فحسب، بل تمتد إلى الصراعات النفسية بين النخبة وبين "الآخر المختلف". تُعد هذه الصراعات نتيجةً لمجموع معقد من العوامل التاريخية والاجتماعية والفلسفية، حيث تلعب النفسية الجماعية والنفور من الآخر دورًا رئيسيًا في تشكيل مشهد الانقسام الثقافي. يبحث هذا المقال في جذور النفسيات السودانية في النخبة، وكيفية ظهور رفض الآخر المختلف من خلال منظور فلسفي ونقد ثقافي عميق.
جذور النفسيات السودانية في النخبة الفلسفة والهوية - النخبة السودانية، التي غالبًا ما تُعرف بأنها حاملة التراث الثقافي والسياسي للدولة، بُنيت هويتها في إطار تاريخ طويل من النضال ضد الاستعمار ومحاولات إعادة بناء الدولة. إلا أن هذا البناء الهوياتي غالبًا ما أُسرع إلى تبني نمط فكري يفرض سلطة المعايير والقيم التي تمثل مصالحها وتاريخها المشترك. في هذا السياق، يصبح الاختلاف عن هذه الهوية المُثبتة تهديدًا يعكس خوفًا من فقدان القيم والمواقف التي اعتُمدت كأساسٍ للتفرد والتميّز.
النفور من الآخر -من منظور فلسفي، يمكن تفسير النفور من الآخر على أنه انعكاس لمفهوم "الآخر" كما ناقشه هيجل وسارتر، حيث يُعتبر الآخر الذي لا يشترك في نفس المفاهيم الأساسية بمثابة مرآة تحجب الذات وتعرضها للتأمل النقدي. بالنخبة السودانية، يظهر هذا المفهوم في نمط رفض كل ما يتعارض مع القوالب المفروضة، مما يؤدي إلى عملية تهميش ذات طابع نفسي وثقافي. فـ"الآخر" هنا ليس مجرد شخص مختلف في الرأي أو الثقافة، بل يُمثّل تهديدًا للهوية التي يسعى النخبة للحفاظ عليها.
الآليات النفسية للتهميش والرفض آلية الاستبعاد من خلال الخطابات الرمزية -تستخدم النخبة السودانية عدة آليات رمزية لتحويل الآخر إلى كائن غير شرعي أو متخلف على الهويات الرسمية. هذه الآليات تشمل لغة النقد الحاد وصياغة الخطابات التي توضع فيها الأفكار التي لا تتماشى مع النموذج السائد على هامش مفهوم الوطن والهوية. بتبني هذه الاستراتيجيات، لا يتم رفض الآخر على مستوى الأفكار فحسب، بل يتم محو أي صفة إنسانية أو ثقافية تشكل تحديًا لهيمنة الفهم الذاتي للنخبة.
انحسار الثقة في الذات الجماعية - على المستوى النفسي، تتبلور هذه الآليات في انحسار الثقة بالنفس الجماعية داخل النخبة. إذ يتم تصوير كل بديل للرأي أو الانتماء كعدو داخلي يُهدد نقاء التجربة الثقافية والتاريخية التي ورثتها. هذه الظاهرة ليست خاصة بالنخبة السودانية فقط؛ بل تتجلى في كل مجتمع يحتفظ بجدار منيعاً حول الهوية الذاتية، حيث يتولد الرعب من فكرة الاختلاف ووجود بدائل. وفي ظل هذا الرعب، يصبح التمسك بالمبادئ التقليدية أكثر إلحاحًا لتأمين شرعية الهوية التي تُعد مصدرًا للقوة والتمسك بالماضي.
تأثير النفسيات السودانية على الخطاب الثقافي والسياسي تجانس الفكر وتأخير التطور الفكري عندما تعمل النخبة على استبعاد كل ما يخالف رؤيتها، فإنها تُقيّد حركة الفكر والتجديد داخل المجتمع. يؤدي هذا التماسك الفكري إلى تبني نمط من الجمود، حيث يُعتبر التجديد أو الفكر الحر خروجًا عن المألوف ويُعامل بنوع من الريبة. بالتالي، يُصبح النقاش المفتوح حول الهوية والانتماء محدوداً، مما يُعيق التقدم الثقافي والفكري ويساهم في ظهور فصائل تنتهج خطابات متشددة ضد الآخر.
الصراع بين الحداثة والتقليد من منظور فلسفي، يصارع المجتمع السوداني بين رغبة التحديث والتجديد على جهة، وبين تمسك النخبة بالتقليد والهوية القديمة على جهة أخرى. هذا الصراع يولد حالة من الانقسام حيث يُنظر إلى التجديد كتحدٍ للأصالة، بينما يُصوَّر التقليد على أنه ضمان لاستمرارية الذات. وفي هذا السياق، يصبح "الآخر" الذي يحمل أفكارًا جديدة أو يتبنى ثقافات مغايرة عائقًا لا بد من مواجهته أو حتى إسكات صوته.
مقاربة نقدية وداعية للتغيير إعادة قراءة الهوية بأسلوب شامل , يتطلب تخطي حالة التهميش هذه إعادة قراءة نقدية لهوية النخبة السودانية تتجاوز الانقسامات التقليدية وتستوعب التنوع الحقيقي داخل المجتمع. فكرة الهوية المندحلة في الوقت الراهن تحتاج إلى إعادة تأطير فلسفي يسمح بضم مختلف الأصوات بدلاً من تصنيفها "كأخر". يشير هذا النهج إلى ضرورة التحرر من الرقابة الذاتية التي فرضتها النظرة النمطية للذات، والعمل على بناء جسر تواصل قائم على الحوار المفتوح بدلاً من الصراعات المستنزفة.
أهمية الحوار والحلول المشتركة , من الضروري تبني خطابات فكرية تجمع بين الحداثة والاحترام المتبادل للقيم التراثية. يمكن القول إن التخلي عن النظرة الاستبعادية للنخبة يُفضي إلى إيجاد ميدان حقيقي للنقاش يجمع مختلف التيارات الفكرية، مما يخلق بيئة محفزة للتجديد والإبداع. إن بناء مجتمع يستوعب الآخر هو خطوة نحو تحقيق وحدوية هوية وطنية متجددة ومتنوعّة، تتخطى الانقسامات التي ترسخت عبر عقود من التهميش والصراع.
وقولي الاخير إن النفسيات الحاسمة التي تعيشها النخبة السودانية في مواجهة الآخر المغاير ليست سوى انعكاس لجروح تاريخية وصراعات داخلية عميقة. ومن خلال التحليل الفلسفي يمكن استيعاب أن رفض الآخر ليس مجرد مسألة شخصية أو فردية، بل هو نتيجة نظام قيم وممارسات ثقافية ترسخت في أذهان من يشغلون مواقع السلطة الفكرية. يكمن الحل في إعادة بناء خطابات الهوية لتكون شاملة ومرنة، قادرة على احتضان التنوع والغنى الفكري كقوة دافعة للتغيير والإبداع بدلاً من أن تكون حافزًا للتجزئة والتهميش.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة