بعد سقوط نظام عمر البشير في أبريل 2019، دخل السودان مرحلة انتقالية مضطربة، ازدادت تعقيدا مع تمرد مليشيا الدعم السريع في أبريل 2023. ومع اقتراب الجيش السوداني من حسم المعركة ميدانيا، بدأت تلوح في الأفق فرص لتحقيق السلام، لكن نجاحه يعتمد على إرادة صادقة لمعالجة جذور الأزمة، وتحقيق توازن بين الحلول العاجلة والمستدامة، وضمان انتقال سياسي سلمي يهيئ لاستقرار دائم. في خضم هذه الحرب، حرصت القيادة السودانية في تعاطيها مع القوى الدولية والإقليمية المتربصة على اعتماد مناورات سياسية تتفادى بها مصير مماثل لما حدث في ليبيا واليمن، حيث التفتت والانقسام أصبحا سمة بارزة. هذه المناورات نجحت في تنفيس مفاوضات جنيف على سبيل المثال، مما أظهر يأس الراعي الأميركي من فرض أجندة خارجية تخدم مصالحه الإستراتيجية في المنطقة، وبالضرورة مصالح أدواته المحلية. لكن نجاح هذه المناورة لم يكن ليكتمل إلا بتحقيق أهداف عسكرية ميدانية تعيد الأمن والاستقرار، وهذا ما يبدو قد تحقق أو أنه قاب قوسين أو أدنى. بيد أن هناك كذلك خطوات سياسية تضمن خروجا آمنا للدولة السودانية من مؤامرة تستهدف كيانها، أوشكت أن تنجح. الحرب تركت آثارا مدمرة على المجتمع، خاصة الأطفال والنساء والنازحين، الذين عانوا من الفقد والعنف والحرمان، ويحتاجون إلى دعم نفسي وتأهيل اجتماعي. كما أن المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية تلعبان دورا محوريا في ترميم النسيج الاجتماعي، عبر حوارات بين القبائل وجهود تقودها شخصيات دينية وتقليدية. تعزيز خطاب التسامح عبر الإعلام والتعليم، وتدريب الكوادر المحلية على التعامل مع الصدمات النفسية، ومكافحة خطاب الكراهية، تعد من الأدوات الأساسية لتحقيق تعايش سلمي. ويبقى السؤال الجوهري: كيف يتحول الانتصار العسكري إلى سلام مستدام؟ لا يكفي الحل العسكري وحده، بل لا بد من إصلاحات شاملة تستوعب الجميع، والتحول من منطق الغلبة إلى التوافق، عبر بناء دولة عادلة لا تُقصي أحدًا. ولعل أولى هذه الخطوات هي الإصلاح الأمني وإعادة تأهيل الجيش والشرطة، بما يعزز الثقة ويكفل احترام حقوق الإنسان. كذلك فإن دمج الحركات المسلحة يتطلب تطبيقا عادلا لبرامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج (DDR)، وإتاحة بدائل اقتصادية تُبعد المقاتلين عن العودة إلى العنف، مع الاستفادة من تجارب مثل كولومبيا. في ذات السياق، يمثل الانتشار الواسع للأسلحة وتنامي الجريمة المنظمة تحديا جديدا. لا بد من فرض رقابة فعالة على تداول السلاح، وتعزيز قدرات الشرطة في مواجهة الجريمة. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد تسببت الحرب في انهيار البنية التحتية وتعطيل الإنتاج وهروب رؤوس الأموال، مما يستدعي إعادة إعمار شاملة ومتوازنة بين الحلول السريعة والطويلة الأمد. معالجة التضخم، دعم العملة، وتشجيع الاستثمار الخارجي مع الحفاظ على السيادة من الأولويات. كما أن التدهور البيئي الناتج عن الحرب، خاصة في دارفور، يستدعي تبني مشاريع صديقة للبيئة تعتمد على الطاقة المتجددة. من جهة أخرى، تُعد المحاسبة القانونية للمتورطين في الجرائم والانتهاكات مدخلا ضروريا لترسيخ العدالة ومنع تكرار الانتهاكات. يجب أن تتم محاكمات عادلة وشفافة، تحقّق الإنصاف دون الانتقام، على غرار تجارب جنوب أفريقيا ورواندا، حيث تم الجمع بين المحاسبة والمصالحة. كما ينبغي تعويض الضحايا عبر برامج مادية ورمزية تعيد الاعتبار وتمنع النسيان، وهذا يتطلب إرادة سياسية حقيقية ومشاركة مجتمعية فاعلة، حتى لا تتحول العدالة إلى مجرد إجراء قانوني بلا أثر حقيقي. ويعد الإصلاح السياسي حجر الأساس في بناء الدولة. إذ يتطلب ذلك مراجعة دستورية بما يضمن التعددية والتمثيل العادل للمكونات المختلفة، وإصلاح النظام الإداري لتعزيز اللامركزية والحد من هيمنة المركز. النخب السياسية – عسكرية ومدنية – مطالبة بالاعتراف بالأخطاء التاريخية وتصحيحها ذاتيا، لأن المآل الحالي هو حصاد طبيعي لتراكمات طويلة من السياسات الخاطئة. كما أن تعزيز المشاركة المدنية ضروري لضمان استمرارية الإصلاحات، عبر تمكين المجتمع المدني ليقوم بدوره الرقابي، وتعزيز الحريات والحق في التعبير والتظاهر، مما يرسّخ ديمقراطية مستقرة. كما أن الدعم الدولي يجب أن يكون مدروسًا وغير مشروط، بحيث يركز على تمكين السودان لا فرض الأجندات. على السودان أن يوازن بين الاستفادة من هذا الدعم، والحفاظ على استقلال قراره السياسي، لتجنّب الوقوع في فخ التبعية أو التحول إلى ساحة صراع للقوى الكبرى. اليوم، يقف السودان عند مفترق طرق حاسم. رغم التحديات الجسيمة، فإن الأمل ما زال قائمًا. الشباب يمثلون طاقة متجددة لإعادة البناء، وتمكينهم سياسيًا واقتصاديًا، وتوفير فرص التعليم والعمل، يُعد استثمارًا في مستقبل البلاد. التعليم يجب أن يكون أداة لترسيخ المواطنة والتسامح، وإعداد أجيال قادرة على قيادة السودان إلى بر الأمان. إن مستقبل السودان يعتمد على قدرة شعبه على تجاوز الانقسامات، والاتفاق على مشروع وطني جامع يُبنى عبر حوار سوداني – سوداني، بعيدًا عن الوصاية الخارجية. السلام ليس مجرد طموح، بل استحقاق لا غنى عنه، ولن يتحقق إلا بإرادة صادقة، وعقول حكيمة، وقلوب مؤمنة بأن السودان يستحق مستقبلًا يليق بتاريخه وشعبه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة