فكرت في عمل خدعة للأصدقاء بمناسبة كذبة أبريل، وهكذا حاولت اختراع كذبة، ففكرت في خدعة الزواج لكنني عدلت عن ذلك من باب تفاهته الفكرة، وفكرت في أن أدعي بأنني كسبت مليون دولار من أول بزنس أقوم به، لكنني وجدتها كذبة أكبر من أن يصدقها من يعرفونني حق المعرفة، إذ أن تاريخ صراعي مع الفلوس مشهود بالهزائم، فكرت كذلك أن أزعم تعييني في البيت الأبيض مع ترامب، ولكنها خدعة مكشوفة، فكرت في القول بأنني كسبت جائزة ما، ولكن حتى هذه لا أهمية لها لا بالنسبة لي ولا بالنسبة للآخرين فهي مسألة شخصية جداً. وهكذا حاولت التفكير في أشياء مختلفة ومتنوعة، ولكن كان تفكيري ينتهي إلى تفاهتها.لكنني توصلت -بعد كل هذا- إلى نتيجة هامة، وهي أنني في الواقع لا أحتاج لكل هذه الأشياء. إنني مكتفٍ جداً بسلامي الداخلي وتصالحي مع النفس، وتأملاتي الذاتية، وتشبعي الروحي، داخل حياة متوسطة الحال، لا هي صاخبة جداً ولا هي ميتة جداً. ورغم أنها حياة بطيئة الإيقاع لكنها ليست مملة ولا شديدة الرتابة. وتوسط الحال هذا نبأني به أحد شيوخ الصوفية حين كنت طفلاً وقال لوالدي وهو يضع راحته فوق رأسي: ستكون حياة ابنك وسطاً في كل شيء. ولم أصدق ذلك، بل قاومت الوسطية هذه مقاومة شرسة، غير أنني كلما تقدمت للأمام خطوة جذبني القدر إلى الخلف خطوة، وهكذا راوحت مكاني عهداً طويلاً، حتى مللت الأماني، فنلت من الحكمة بقدر خسارة الطموحات، وقد قال الشاعر: ومن الرجال إذا استوت أحلامهم من يستشار إذا استشير فيطرقُ حتى يجول بكل وادٍ قلبه فيرى ويسمع ما يقول فينطقُ
ذلك أن استواء الأحلام مناط الحكمة، فإن التهافت يورث اللجاج، وعدم استقامة البصيرة. وحين أدركت ذلك زال سخطي على ذلك الشيخ المتصوف وإن كنت غير راضٍ كل الرضى عنه. مع ذلك فاستواء الأحلام ليس مسألة يسهل تقبلها عند كثير من البشر، لأن انفعالهم في الحياة -وليس بها- إنما هو انفعال بالمستقبل، وما المستقبل إلا حلم يحوم بين جبال من غير المتوقعات؛ لذلك لا أحد يمكنه ان يعلم الخير من الشر، فقد يجتهد المرء في الشر وهو يحسبه خيراً والعكس بالعكس. فليس أسلم للمرء سوى التنكب عن ملاحقة ما ليس بيد حاضره. إلا أنَّ هذا التنكب قد يورث التواكل والسِّلبية وإن تطورت السلبية فقد تبلغ بالمرء إلى السوداوية، والسوداوية تورث ال################ المطلق وال################ يفضي إلى أذى النفس والتقاعس عن إعمار الأرض. لذلك فالمرء يجب أن يتوسط فلا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما أوتي، وأن يكون بين ذلك قواماً. وهذا ما يورث التواضع، والتواضع شرط من شروط الإستزادة المعرفية، والمعرفة تورث الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.. وكفى.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة