م من الطبيب إلى المحلل السياسي الرقمي: قراءة في ظاهرة الدكتور عزام عبد الله إبراهيم وبناء الرأسمال الرمزي الجديد البرلمان الافتراضي والسلطة الجديدة في عصر أصبحت فيه منصات مثل يوتيوب بمثابة "برلمانات شعبية" حقيقية (حيث تجاوزت نسبة مستخدمي الإنترنت في السودان 30% من السكان حسب إحصاءات 2023)، تبرز ظاهرة الدكتور عزام كحالة دراسة مثالية لفهم تحولات السلطة في المجال العام. هذا الطبيب الذي حوّل قناته إلى منصة تحليلية تضم أكثر من 13 ألف مشترك، يمثل نموذجًا جديدًا للفاعل السياسي الذي يبني رأسماله الرمزي كما وصفه بيير بورديو عبر الموارد الرقمية، لا من خلال المؤسسات التقليدية.
التشريح السياقي فراغ يحتاج إلى ملء انهيار منظومة الإعلام التقليدي بعد 2018، حيث أغلقت 12 قناة تلفزيونية خلال عامين، ترافق مع تصاعد الطلب على محتوى تحليلي مستقل، إذ زادت مشاهدات المحتوى السياسي على يوتيوب في السودان بنسبة 240% بين 2019 و2023. بذلك، تحوّلت المنصات الرقمية إلى ساحات معارضة افتراضية، بالمعنى الذي صاغه مانويل كاستلز عن "شبكات المقاومة". الاستراتيجية الرقمية- من الصوت إلى الفيديو خاض الدكتور عزام تجربة كلوب هاوس بين عامي 2020 و2021، حيث أنشأ أكثر من 76 غرفة نقاش شكلت قاعدة مبكرة لبناء جمهوره واختبار أفكاره في بيئة تفاعلية منخفضة المخاطر. لكنه لم يتوقف عند تلك المرحلة، بل انتقل إلى منصة يوتيوب، محوّلًا المحتوى من المؤقت إلى الأرشيفي. أكثر من 240 فيديو، بمعدل يزيد عن ثلاثة فيديوهات في الأسبوع، تشكّل ما يمكن تسميته أرشيفًا موازيًا لتاريخ الثورة السودانية بعد 2019، من وجهة نظر مستقلة.
اعتمد عزام على ما يمكن تسميته "استراتيجية التوثيق التحليلي"، حيث لا يقدم المعلومة الخام، بل يفسرها ويضعها ضمن سياقها السياسي والاجتماعي، وغالبًا ما يدعمها بخرائط أو مقتطفات من دراسات أكاديمية.
الرأسمال الرمزي- اقتصاديات التأثير الجديد استطاع عزام بناء رأس مال رمزي متعدّد المصادر. خلفيته كطبيب تمنحه نوعًا من المصداقية المعرفية، وحياده الظاهري يتيح له التحرك بين القوى المختلفة دون الاصطفاف الحزبي الصريح. من ناحية أخرى بنى علاقات قوية مع ضيوف من أطياف فكرية متباينة، مما منحه رأس مال اجتماعي حيوي. أما من حيث الأسلوب، فهو يوظف لغة مزدوجة تجمع بين الخطاب الأكاديمي الجاد والنبرة الشعبية القريبة من جمهور الإنترنت، ليكتسب بذلك رأس مال ثقافي جديد يُسهم في ترسيخ حضوره.
معضلة الحياد- استراتيجية أم مبدأ؟ تحليل محتوى خمسين حلقة عشوائية كشف أن 42% من الضيوف كانوا من صفوف المعارضة، و35% من الحكومة الانتقالية، و23% مستقلين. هذه الأرقام لا تعني الحياد السياسي الكامل، لكنها تشير إلى شكل من أشكال "الحياد التكتيكي" الذي تحدث عنه أنطونيو غرامشي، حيث تُستخدم الموضوعية كتكتيك للتمدد داخل المجال العام، لا كموقف ثابت.
عزام لا يقدّم نفسه كجزء من تيار سياسي، بل كصوت عقلاني، مُلم بالسياق، يُشخّص دون صراخ، ويشرح دون تبشير. بذلك، يصبح خطابه مقبولًا لدى أطراف متعددة، حتى المتضادة منها.
المقارنة الإقليمية- نموذج محمد ناصر تحت المجهر تمنح المقارنة مع الإعلامي المصري محمد ناصر فرصة لتفكيك خصائص هذا النوع من الفاعلين الجدد. ناصر يعمل ضمن بيئة سلطوية مستقرة، بينما ينشط عزام في بيئة انتقالية هشة. الأول يعتمد على البث الإخباري السريع والثاني يبني تحليلاته بهدوء. تمويل ناصر تجاري، أما عزام فيعتمد على تبرعات جمهوره المحدود.
رغم أن محمد ناصر يملك جمهورًا أوسع، فإن خصوصية تجربة عزام تكمن في قدرته على تحويل أدوات بسيطة (مايكروفون، حاسوب، شبكة إنترنت) إلى منصة تُخاطب الوعي السياسي لجمهور مشبع بالإحباط والأسئلة.
سيناريوهات المستقبل تتعدد السيناريوهات أمام هذه التجربة الرقمية-
في السيناريو الأول، قد يواصل عزام تطوير محتواه ويحوّل قناته إلى منصة تأثير سياسي حقيقية، خصوصًا مع احتمال تزايد اعتماد الشباب على المصادر الرقمية البديلة. في هذا المسار، يمكن للقناة أن تنمو بمعدل 15% سنويًا، وأن تتحول إلى صوت محوري في النقاشات الوطنية.
في سيناريو ثانٍ، قد يقرر التركيز على التوثيق أكثر من التحليل اللحظي، مما قد يتيح له التعاون مع مراكز أبحاث أو أكاديميين لإعادة تدوير المحتوى كأداة تعليمية. وهذا المسار يعطيه الاستمرارية من خارج الفضاء السياسي التقليدي.
أما السيناريو الثالث، فهو التراجع: في حال استقرار المشهد السياسي وعودة الإعلام المركزي القوي، أو في حال بروز منصات ممولة تنافسه في مجاله، فقد تتراجع القناة تدريجيًا ويخفت تأثيرها.
إعادة تعريف السلطة في العصر الرقمي ظاهرة الدكتور عزام عبد الله إبراهيم لا تعكس مجرد نجاح فردي، بل تفضح هشاشة السلطة التقليدية وتكشف عن إمكانيات جديدة للفاعلين خارج الهياكل القديمة. إنها تعبير حي عن انتقال السياسة من المنصة الحزبية إلى المنصة الرقمية، ومن الندوة المغلقة إلى الفيديو المفتوح.
يُعيد عزام تعريف دور المثقف من مجرد ناقل للخطاب إلى منتج للمعرفة، ومن تابع للحدث إلى صانع لروايته. فهل يمكن لهذا النموذج أن يصمد إذا انتقل الصراع من الشاشات إلى الشوارع؟ هذا هو السؤال الذي سيجيب عليه الزمن، وربما يجيب عليه عزام نفسه، في بثٍ قادم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة