تعد جريمة الإبادة الجماعية من الجرائم الفظيعة والخطيرة التي أقرها القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، لذا تُعد من الجرائم الدولية التي يجب التصدي لها في وقت السلم والحرب، نظرًا لخطورتها. ولهذا، أصدرت الأمم المتحدة اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية عام 1948، وتُعد من أوائل الاتفاقيات الدولية التي صدرت بعد نشأة الأمم المتحدة عام 1945. وقد نصت ديباجة الاتفاقية على ما يلي: "إذ ترى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، بقرارها 96 (د – 1) المؤرخ في 11 كانون الأول / ديسمبر 1946، قد أعلنت أن الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها ويدينها العالم المتمدن. وإذ تعترف بأن الإبادة الجماعية قد ألحقت، في جميع عصور التاريخ، خسائر جسيمة بالإنسانية، وإيماناً منها بأن تحرير البشرية من مثل هذه الآفة البغيضة يتطلب التعاون الدولي".
عرفت الاتفاقية الإبادة الجماعية وحددت لها أشكالاً معينة في المادة الثانية على أنها: "في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أعضاء من الجماعة. (ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. (ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً. (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى."
فرضت تلك الاتفاقية عقوبات صارمة على مرتكبي جريمة الإبادة، ولم تقف عند منفذي الجريمة فحسب، بل نصت المادة الثالثة من الاتفاقية على أن التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية، والتحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، وكذلك محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية، وأيضًا الاشتراك في الإبادة الجماعية، جميعها أفعال تستوجب العقاب الصارم.
لم يكتفِ المجتمع الدولي باتفاقية الإبادة الجماعية التي وُقّعت عام 1948، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك من أجل مناهضة هذه الجريمة الشنيعة ومنع إفلات مرتكبيها من العقاب، حيث أُدرجت جريمة الإبادة الجماعية ضمن الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية، واعتُبرت من الجرائم الفظيعة التي يجب محاسبة المسؤولين عنها وعدم إفلاتهم من العقاب، وذلك بموجب المادة السادسة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
منذ مايو 2024، فرضت قوات الدعم السريع حصارًا محكمًا على مدينة الفاشر غربي السودان، وهي المدينة التي تأوي أكثر من مليون شخص، فضلاً عن معسكرات نازحين يُقدّر عددهم بأكثر من نصف مليون نازح. ولم تقتصر قوات الدعم السريع على الحصار فحسب، بل صاحب الحصار قصف مدفعي للمدنيين، ما نجم عنه مقتل المئات من المدنيين، حسب تقديرات المنظمات الإنسانية التي تعمل في مجال الرصد والتوثيق، وكذلك تدمير البنية التحتية لمنازل المدنيين والمرافق العامة، مع الاستهداف المباشر والممنهج لمعظم المستشفيات بالمدينة، مما فاقم الوضع الصحي، وتسبب في موت العشرات من المدنيين نتيجة قصف وتدمير قوات الدعم السريع للمستشفيات وخروجها من الخدمة. ومع امتداد فترة الحصار التي تقترب من عامها الأول، من مايو 2024 إلى أبريل 2025، استُنفدت المواد الغذائية والأدوية وكل مستلزمات وضرورات الحياة بالمدينة. ومع الغياب التام للمستشفيات، أصبح الوضع الإنساني في مدينة الفاشر كارثيًا لا يُوصف، حيث أصبح الموت سيد الموقف. يعيش سكان الفاشر الآن في حالة جوع تام، وأصبحت الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة يموتون بوتيرة متصاعدة نتيجة الحصار وانعدام الغذاء والدواء.
إن الفقرتين الأولى والثانية من المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة، والمادة السادسة من نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، قد نُفذت فعليًا من قبل قوات الدعم السريع، من خلال القصف المدفعي المكثف للمدنيين العزّل في مدينة الفاشر، بقصد إهلاك قوميات وإثنيات بعينها، ما أدى إلى مقتل المئات من المواطنين وإصابة آخرين، بشهادة منظمات محلية ودولية. ولم تتوقف قوات الدعم السريع عند الطريقتين المنصوص عليهما في اتفاقية الإبادة، أي قتل أعضاء من الجماعة وإلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بهم، بل لجأت إلى أسلوب آخر أشد فتكًا وألمًا، وهو استخدام الجوع كسلاح لإهلاك المدنيين، عن طريق فرض حصار محكم على المدينة من كافة النواحي، ومنع جميع أنواع المواد الغذائية والأدوية من الدخول، بل وأصدرت نشرات وقرارات صارمة تمنع دخول أي من المحاصيل والمواد الغذائية إلى مدينة الفاشر، فضلًا عن حصارها بأعداد كبيرة من المقاتلين. إن هذا النوع من الأساليب أشارت إليه الاتفاقية ونظام روما في الفقرة الثالثة: "إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً". إن النص أعلاه يُفسَّر بأن إحدى الظروف المعيشية التي تؤدي إلى الهلاك والتدمير، سواء كان كليًا أو جزئيًا، هي المجاعة، وحرمان الأشخاص من تلقي العلاج عن طريق المحاصرة أو غيرها من الأساليب غير المشروعة، وهو ما يتطابق تمامًا مع ما قامت به قوات الدعم السريع في مدينة الفاشر من قصف للمستشفيات وخروجها من الخدمة، والحصار المحكم.
إذا نظرنا إلى أركان جريمة الإبادة الجماعية، وأسقطناها على وقائع وأفعال قوات الدعم السريع في مدينة الفاشر، نجد أن جميع أركان الجريمة وفقًا للقانون الدولي تنطبق على هذه الحالة. فمن حيث الركن الشرعي، نجد أن اتفاقية منع الإبادة الجماعية التي أصدرتها الأمم المتحدة عام 1948، وكذلك المادة السادسة من نظام روما، جرّمت تلك الأفعال التي تُصنَّف على أنها إبادة جماعية. أما من ناحية الركن المادي لجريمة الإبادة الجماعية، فقد توصل القضاء الدولي الجنائي إلى تحديد الأفعال التي تدخل في نطاق إلحاق الأذى الجسدي والروحي بأعضاء الجماعة، وهي التعذيب، والمعاملات اللاإنسانية، والاغتصاب، والعبودية، والتجويع، والنفي، والاضطهاد، ولا سيما القتل، والتي تكون موجهة للجماعات العرقية أو الإثنية أو الدينية. هذه الأشكال من الانتهاكات قامت بها قوات الدعم السريع، خاصة القتل، والتعذيب، والتجويع، والتي نتج عنها هلاك مئات من المدنيين. أما من حيث الركن المعنوي، الذي يتطلب توافر القصد الجنائي، أي اتجاه إرادة الفاعل لارتكاب أحد الأفعال المكونة للسلوك الإجرامي مع علمه بأن هذا الفعل محظور وقد يؤدي إلى نتيجة الإبادة الجماعية، فنجد أن قوات الدعم السريع كانت تعلم علم اليقين، وكان جنود وقادة هذه القوات يصرّحون عبر وسائل الإعلام بتدمير مدينة الفاشر وإهلاك كل من فيها، لذا نستطيع القول إنها جريمة مكتملة الأركان.
ولخطورة الوضع في مدينة الفاشر وما آل إليه من حصار مستمر وقصف عشوائي متواصل للمدنيين، تبنّى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 13 يونيو 2024 القرار رقم 2736، الذي طالب فيه قوات الدعم السريع بإنهاء حصارها لمدينة الفاشر، ودعا إلى وقف فوري للأعمال العدائية في المنطقة. وقد حظي هذا القرار بتأييد 14 عضوًا، مع امتناع روسيا عن التصويت. لم تستجب قوات الدعم السريع، بل زادت من تشديد الحصار واستمرت في الأعمال العدائية، مما يجعل هذا القرار دليلًا واضحًا على أن قوات الدعم السريع قد ارتكبت أعمالًا عدائية تصنَّف ضمن الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية، مما يتطلب المساءلة والمحاسبة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة