يا لها من صورة قاتمة تلك التي ترتسم لمدننا! حولٌ في الرؤية، مقرون بوزارة مقعرة لا ترى الحقائق بوضوح، يجعل التمييز بين الصواب والخطأ ضربًا من العسير. وسلطة أمر واقع تستمد قوتها البائسة من خراب ودمار، شاركت فيه طائرات "غبية" وقصف عشوائي أعمى، أطلقته مليشيات طرفين لا يكترثان بحياة أوطان. مدن أصابها التلوث في الصميم، ونمت في أزقتها بكتيريا ممرضة تنذر بعواقب وخيمة. وكما هو معلوم، ففي أعقاب الحروب تنبت الطواعين و الطواغيت بأنواعها، لتستغل الفوضى وتفرض سطوتها. هذه السلطة التي فرضت نفسها بقوة الأمر الواقع، ظلت تردد بتبجح "بل.. بل.. بس!" وكأن المدينة ملكًا خاصًا لها، تتلاعب بمصائر سكانها، تهجرهم قسرًا، ثم تدعي اليوم أنها صاحبة مشروع التعمير. أي بصيرة تلك التي تتحدث بها حكومة "أم حمد"؟ حكومة عجزت عن البناء والتنمية في زمن السلم، فكيف لها أن تفعل ذلك بعد أن أكلت الحرب الأخضر واليابس؟ إنها مفارقة مؤلمة، بل مهزلة سوداء. كيف لمن تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء، وساهموا في تدمير الحجر والبشر، أن يتحدثوا عن إعادة البناء؟ كيف لمن زرعوا بذور الكراهية والفرقة، أن يدعوا إلى الوحدة والوئام؟ إن الحول هنا ليس مجرد عجز في الرؤية، بل هو تجاهل متعمد للحقائق، وتزييف للوعي. والوزارة المقعرة ليست مجرد جهاز بيروقراطي عقيم، بل هي أداة لتكريس هذا الحول وترسيخ سلطة الأمر الواقع. أما ترديدات "بل.. بل.. بس!" فهي ليست سوى محاولة يائسة لإخراس الأصوات الحرة، وتكميم الأفواه التي تنطق بالحق. إن التعمير الحقيقي لا يبدأ بالجدران والأسمنت فحسب، بل يبدأ بضماد الجراح، وبناء الثقة، وتحقيق العدالة. يبدأ بمحاسبة المسؤولين عن الخراب والدمار، وتعويض الضحايا، وتهيئة بيئة آمنة ومستقرة يعود فيها النازحون إلى ديارهم بكرامة. أما حكومة "أم حمد" التي لم تزرع خيرًا في زمن الرخاء، فمن الصعب أن نتوقع منها حصادًا طيبًا في زمن الشدة. إن البصيرة الحقيقية تقتضي الاعتراف بالخطأ، وفتح المجال أمام قوى وطنية مخلصة قادرة على انتشال المدينة من براثن الدمار وإعادة بنائها على أسس سليمة. لقد طال أمد هذا الحول، وتفاقم خطر سلطة الأمر الواقع. آن الأوان لكي تستفيق المدينة من كبوتها، وأن تنفض عنها غبار الحرب واليأس، وأن تستعيد بصرها وبصيرتها، لترى المستقبل بعين واضحة، وتخطو نحوه بخطى ثابتة. فهل لنا أن نحلم بمدينة تستعيد عافيتها، وتنبذ الحول والتقعير، وتتجاوز سلطة الأمر الواقع إلى فضاء أرحب من العدل والحرية والازدهار؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة