في ربيع عام 2023، انزلق السودان إلى أتون صراع مسلح دامٍ، تفجر في منتصف أبريل/ نيسان بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع، ليضع البلاد على صفيح ساخن من المواجهات العسكرية. وعلى مدار هذه الأشهر العصيبة، تمايل ميزان القوى بين الطرفين، فتبادلا السيطرة على الأرض، وحققا مكاسب ميدانية تارة، وتكبدوا خسائر فادحة تارة أخرى. غير أنه الآونة الأخيرة شهدت تحولا ملحوظا في المشهد العسكري، حيث بدأت كفة الجيش السوداني تميل نحو الأرجحية، مُحدثةً تساؤلات ملحة تتردد في أرجاء البلاد: هل تمثل هذه الانتصارات العسكرية بداية تحول استراتيجي جذري ينذر بنهاية وشيكة لقوات الدعم السريع، أم أنها مجرد ومضات انتصار عابرة قد تتبدل معطياتها في غضون الأيام القادمة؟ وفي سياق هذه التطورات المتسارعة، تبرز استعادة الجيش السوداني للقصر الجمهوري والوزارات السيادية في الخرطوم كحدث مفصلي يحمل دلالات عميقة. فهل تمثل هذه السيطرة عودة فعلية لهيبة الدولة ومؤسساتها، وإيذانا بتغيير حاسم لمسار الحرب نحو نهاية محتومة، أم أنها مجرد انتصار عسكري يحمل رمزية سيادية قوية، دون أن يعكس بالضرورة استتباب الأمن والاستقرار الشامل؟ في ظل هذه التحولات الميدانية، يلوح في الأفق سيناريو التفاوض كخيار محتمل، خاصة مع تزايد الحديث عن هزيمة مليشيا الدعم السريع. وهذا يستدعي بدوره استكشاف الخيارات المتاحة أمام هذه المليشيا في هذه المرحلة الحرجة. ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن أي مسار تفاوضي لن يكون غاية في حد ذاته، بل سيخضع بشكل كامل للواقع الجديد الذي تفرضه هزيمة الدعم السريع، التي لم تعد مجرد تكهنات. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل تعقيدات الملفات الأمنية والسياسية الشائكة التي ستظل قائمة حتى بعد توقف الرصاص. فما هي التحديات الأمنية التي تنتظر السودان في تفكيك الشبكات المتبقية وضمان عدم عودة شبح العنف؟ وفي خضم هذه التطورات، قد يبحث قائد الدعم السريع، حميدتي، عن مخرج سياسي وسط تزايد احتمالات انهيار قواته، ولكن طريقه محفوف بالعقبات القانونية والرفض الشعبي المتصاعد. هزيمة الدعم السريع.. دلالات ومعاني: تثير التطورات الأخيرة تساؤلات حول ما إذا كانت مليشيا الدعم السريع تواجه انهيارًا فعليًا أم أنها تمر بمرحلة إعادة تموضع وتغيير استراتيجي. تشير تقارير إلى مواجهة القوات صعوبات لوجستية كبيرة، بما في ذلك خسائر فادحة في الأرواح وفي الإمدادات والعتاد. وقد تعرضت لضربات موجعة منها ضرب مخازن الذخيرة في ولايات مختلفة، وتآكل شرعيتها بسبب اتهامات بارتكاب جرائم حرب صدرت بحقها تقارير أممية وإدانات دولية، بالإضافة إلى تراجع الدعم الإقليمي نسبيا، نتيجة للضغوط الدولية. رغم ذلك، تحتفظ المليشيا بسبب هذا الدعم لا سيما الدعم اللوجستي من تشاد بقدرة على المناورة والقتال في مناطق متاخمة لها من دارفور، ولم تُهزم بشكل حاسم، مما يجعل الحديث عن انهيار كامل ربما سابقا لأوانه. لكن الذي يمكن تأكيده هو أنها تمر بمرحلة ضعف استراتيجي قد تؤدي إلى تفككها أو تحولها إلى حرب عصابات. ولذلك من المرجح أن تعمد المليشيا إلى تكتيك حرب عصابات طويلة الأمد كخيار يائس، مستفيدة من تحالفاتها القبلية وخبرتها في القتال معاقلها التقليدية في دارفور. خاصة إذا ما حافظة على مصادر تمويلها المتنوعة، والتي تشمل شبكات تجارية وتهريب الذهب. في المحصلة، قد يكون السيناريو الأقرب هو تحولها إلى حركة تمرد غير مركزية، تشبه تجارب بعض المليشيات في أفريقيا، بدلًا من بقائها كيانا عسكريا موحدا. وتعول المليشيا على أن انتصارات الجيش انتصارات ظرفية ناتجة عن عوامل تكتيكية أو تغيرات في موازين القوى المحلية. ومع ذلك، فإن استعادة الجيش لمواقع استراتيجية في العاصمة الخرطوم يعكس بدون شك تفوقا استراتيجيا في قدراته العسكرية. إذ يمثل تحرير القصر الجمهوري والوزارات السيادية في العاصمة أكثر من مجرد انتصار عسكري، إذ يحمل بعدا رمزيا وسياسيا مهما، كونه يعيد تأكيد سلطة الدولة المركزية. هذه الخطوة تمنح الجيش سيطرة على المؤسسات السيادية، ما يمكّنه من استئناف بعض المهام الإدارية والسياسية، حتى وإن كانت محدودة في البداية. كما أن لهذا التطور تأثيرا معنويا، حيث يرفع من الروح القتالية للجيش، بينما يضعف معنويات قوات الدعم السريع. علاوة على ذلك، فإن السيطرة على هذه المقرات قد تهيئ الظروف لعودة المؤسسات الحكومية إلى العمل بشكل تدريجي في العاصمة. بيد أنه يبقى تحقيق الاستقرار الحقيقي مطلبا يتطلب عملية سياسية شاملة تجمع جميع الأطراف، لتأسيس حكم رشيد ومستقبل مستقر للسودان. وهناك تساؤلات جوهرية حول شكل الحكم المستقبلي، وسبل تحقيق المصالحة الوطنية، ومدى قدرة الجيش على إدارة اجماع سياسي يفضي إلى استقرار مستدام.
في سياق النظر إلى فترة ما بعد انتهاء الحرب ومرحلة بناء السلام في البلاد يطرح مراقبون سياسيون تساؤلات حول خيارات التفاوض المتاحة لمليشيا الدعم السريع في حال تسليمها الكامل بالهزيمة. لكن من الضروري التأكيد على أن تحديد هذه الخيارات بشكل قاطع أمر صعب، نظرا لاعتماده على عدة عوامل متغيرة على أرض الواقع. ومع ذلك، يمكن تحليل السيناريوهات المحتملة والخيارات التي قد تلجأ إليها هذه المليشيا في مثل هذه الظروف، مع الأخذ في الاعتبار أن مفهوم "الهزيمة" نفسه قد يكون نسبيا ويتفاوت في تعريفه وتأثيره. بشكل عام، يعني التفاوض من منطلق الهزيمة أن مليشيا الدعم السريع لم تعد في موقع قوة يمكنها من خلاله فرض شروطها بشكل كامل، بل أصبحت في موقف أضعف كثيرا. هذا الوضع قد يدفعهم إلى التفاوض بهدف تحقيق عدة أهداف رئيسية، تشمل وقف الخسائر والسعي لإنهاء القتال وتقليل الخسائر في الأرواح والمعدات، ومحاولة الحفاظ على سيطرتهم على بعض المناطق أو على قواتهم ككيان، والتفاوض على شروط استسلام أو انسحاب آمن لقواتهم، والسعي للحصول على ضمانات بعدم ملاحقة قادتهم، ومحاولة الحصول على بعض المكاسب السياسية أو الأمنية حتى في ظل الهزيمة. بناءً على هذه الأهداف، يمكن أن تشمل الخيارات المطروحة للمليشيا ما يلي: المفاوضات المباشرة مع الجيش السوداني، والتي قد تتضمن الاستسلام بشروط محددة كتسليم الأسلحة وتحديد مصير فلول قواتها وتقديم ضمانات لبعض الأفراد، أو التفاوض على وقف إطلاق النار وانسحاب قواتهم من بعض المناطق مقابل الحصول على ضمانات بعدم التعرض لهم، أو محاولة التفاوض على دور سياسي أو أمني محدود في المستقبل بشروط أقل تفضيلاً من تلك التي كانوا يطالبون بها في بداية الصراع. كما يمكنهم اللجوء إلى المفاوضات بوساطة خارجية عبر جهات دولية أو إقليمية مثل الاتحاد الأفريقي أو الأمم المتحدة أو دول الجوار، مما قد يوفر لهم بعض الحماية أو هامشًا أكبر للمناورة، أو السعي للحصول على ضمانات من المجتمع الدولي بشأن سلامة قواتهم أو قادتهم كجزء من أي اتفاق. قد يلجأون أيضًا إلى تغيير التحالفات أو البحث عن دعم جديد من قوى إقليمية أو دولية أخرى قد تكون لديها مصالح في المنطقة، على أمل تغيير ميزان القوى، أو التفكير في الانضمام إلى تحالفات عسكرية أو سياسية أخرى للحفاظ على وجودهم أو تحقيق بعض أهدافهم. كل هذه الخيارات مرهونة بموافقة الجيش ومدى تقديره لموقفه كطرف منتصر ومدى استعداده للدخول في مواجهة حرب عصابات ضد المليشيا في مناطق دارفور المختلفة. وفي سياق ما بعد الحرب يبرز سؤال مهم وهو هل من مخرج سياسي ل (حميدتي)؟ إذ أن المخرج السياسي لحميدتي يزداد تعقيديا مع استمرار توالي هزائم قواته وتصاعد الاتهامات الموجهة إليه بارتكاب جرائم حرب، مما يضيق خياراته بشكل كبير. فالجيش السوداني والقوى السياسية المدنية تصر على ضرورة تنحيه عن السلطة ومحاسبته على أفعاله، مما يجعل أي حل تفاوضي يتطلب تنازلات كبيرة منه. ومع ذلك، لا يبدو في الأفق أي مخرج سياسي في أفق الظروف الحالية، حيث يفضل الجيش وحلفاؤه تصفية نفوذه بشكل نهائي. فمن بين التحديات الرئيسية التي تواجه حميدتي ملفاته الجنائية، حيث إنه غدا مطلوبا من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهم تتعلق بجرائم في دارفور، بالإضافة إلى الرفض الشعبي الواسع لإدراجه في أي تسوية سياسية. ورغم ذلك، تبقى هناك بعض السيناريوهات المحتملة، وإن كانت معقدة: أولًا، قد يلجأ إلى التفاوض عبر وسطاء إقليميين لضمان منفى آمن مقابل انسحاب تدريجي لقواته، على غرار ما حدث مع بعض قادة الحروب في أفريقيا. لكن يبقى السؤال حول أي دولة ستوافق على استضافته في ظل هذه الظروف. التحديات والدروس المستفادة: تشهد البلاد في أعقاب هذه الحرب القاسية تحديات أمنية واقتصادية بالغة التعقيد، تتطلب معالجة شاملة ومستدامة لتحقيق الاستقرار والتعافي. من أبرز هذه التحديات وأكثرها إلحاحا هما: تفكيك الشبكات المتبقية التي خلفتها الحرب، وإعادة بناء الاقتصاد الوطني الذي تضرر بشدة. إن تفكيك الشبكات الأمنية المتبقية وإعادة بناء الاقتصاد يمثلان تحديين مترابطين ومتشابكين في السودان. يتطلب الأمر رؤية شاملة واستراتيجية متكاملة لمعالجة هذه القضايا بشكل فعال. يجب أن تركز الجهود على تحقيق الاستقرار الأمني، وبناء مؤسسات قوية، وتنفيذ إصلاحات اقتصادية، وتعزيز المصالحة الوطنية لتحقيق تعافٍ مستدام وسلام دائم. ومن التحديات الأمنية؛ انتشار الأسلحة بين المدنيين والمقاتلين السابقين يشكل تهديدًا أمنيًا كبيرًا، حيث يمكن استخدامها في أعمال عنف وجرائم. وقد تتشكل أو تتطور ميليشيات قبلية مسلحة، مما يزيد من احتمالية الصراعات القبلية والنزاعات على الموارد. وتواجه عملية تفكيك الشبكات المسلحة في السودان تحديات معقدة تتمثل في صعوبة تحديد مواقعها نظراً لاختبائها في مناطق نائية أو معزولة، إضافة إلى تعقيدات تحديد هويات الأفراد بين مقاتلين ومدنيين أو تمييز الانتماءات التنظيمية. كما يعاني الجيش والأجهزة الأمنية من نقص في الموارد والقدرات اللازمة لمكافحة هذه الشبكات بشكل فعال، بينما تزيد احتمالية مواجهة مقاومة مسلحة من هذه المجموعات من مخاطر تصاعد العنف. ويتطلب النجاح في هذه المهمة اعتماد نهج متكامل يجمع بين العمليات العسكرية وبرامج إعادة الدمج والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، مع ضرورة تعزيز التعاون الإقليمي والدولي لمكافحة الشبكات العابرة للحدود. إن تجربة الحرب تذكيرا مؤلما بالأبعاد المدمرة للصراعات المسلحة وأهمية العمل على تجنبها في المستقبل. يمكن استخلاص العديد من الدروس الهامة من هذه التجربة: إذ أن بناء مؤسسات قوية وفعالة هو أساس تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة. وبناءا على الظروف الراهنة، هناك احتمال قائم لتكرار أزمات مماثلة في السودان أو في مناطق أخرى من العالم. تساهم عدة عوامل في هذا الاحتمال، من بينها عدم معالجة جذور المشاكل التي أدت إلى الصراع في السودان، مثل التدخلات الخارجية التي تفتقر إلى المسؤولية قد تؤدي إلى تفاقم الصراعات وزعزعة الاستقرار. كما أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، مثل الفقر والبطالة، يمكن أن تزيد من التوترات الاجتماعية واحتمالية اندلاع العنف. لتجنب تكرار مثل هذه المآسي في المستقبل، يجب العمل على تعزيز مبادئ الحكم الرشيد والعدالة والمساواة، ودعم الحوار والمفاوضات الشاملة بين جميع الأطراف المعنية. كما يجب معالجة الأسباب الأساسية للصراع من خلال الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والامتناع عن أي تدخلات خارجية قد تؤدي إلى تفاقم الصراع.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة