المشكلة التي يواجهها العقل الشمالي -إن كان هناك عقل- هو أنه يختزل كل السيناريوهات في زاوية صغيرة من مشهد قصير، ما دام هذا الاختزال يمنحه طمأنينة ولو متوهمة -وهو يعلم أنها متوهمة ولكنه (يتمنى) ألا تكون متوهمة رغم أنه متأكد من أنها متوهمة. وهذه الفوضى الرغائبية أو ما وصفها الله (بالهوى) هي ما جعلت حكم الشمال للسودان طيلة قرابة سبعين عاماً ليست سوى مزيج من الانهيار والفساد المتواصل بدالة هندسية، وما هذه الحرب إلا أحد نواتج فعل اللاعقل الشمالي الذي كان يتسنم الحكم منذ عام ١٩٥٦. دعونا نفترض أن الدعم السريع لم ينسحب لغرض تكتيكي من العاصمة رغم أن كل المؤشرات كانت تشير إلى أن الانسحاب أجراء منطقي لعدة أسباب. ولكن دعونا نفترض بأن الدعم انهزم في الخرطوم، فهل هذا يعني نهاية الحرب؟ دعونا لا نتحدث إلا بناء على أسس واقعية مستمدة من تاريخ الجيش الطويل نفسه في حروبه التي خاضها فقط ضد الشعوب السودانية الأخرى (غير الشمالية) - مثل جنوب السودان سابقاً، حيث خاض جيش الشمال حرباً ضد الحركة الشعبية استمرت لخمسين عاماً وانتهت بانتصار (مليشيات) الجنوبيين، وحروب الجيش في النيل الأزرق وجبال النوبة وجنوب كردفان، والتي استمرت فيها هزائم الجيش وتشكلت مناطق محررة في كل هذه الأقاليم، وكان عمر البشير يبشر الشماليين بأن جيشهم سيحرر كاودا في الصيف القادم، وجاء الصيف وجاء (الشتي) كما تقول فيروز، وألف صيف وألف شتي، ولم يتمكن الجيش من تحرير كاودا، من الحركة الشعبية، بل وظلت حركات الكفاح المسلح في مناطق الهامش تشكل شوكة حوت (لا بتنبلع لا بتفوت) رغم محاولة خداع قياداتها كمناوي وعبد الواحد والحلو..الخ، ورغم ان جيش الشماليين ظل يزرع الفتن القبلية ويؤسس عشرات المليشيات بدءًا من مليشيات الدفاع الشعبي والدبابين وحرس الحدود والجنجويد وأخيراً الدعم السريع، هذا الأخير الذي استطاع تحجيم قوات الحركات لسنوات قبل أن يتحول لجيش كامل الدسم بتقنينه بقانون قوات الدعم السريع، وحصل على شرعية قانونية ودستورية. ثم انتبه القائد حميدتي إلا أنه لا يدافع عن حقوق الهامش بل عن مزايا الشماليين فانحاز للهامش، وأصبح الجيش الذي أذاق الشماليين الجزاء من جنس ما عملوه في الشعوب المهمشة الأخرى. فتحول رأيهم في الدعم بين عشية وضحاها واصبحوا يصرخون بأنها مليشيات تشادية ومن النيجر وارهابية وكل هذا الهراء، فأنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون فهم كالأنعام أو أضل سبيلا، فما لهؤلاء القوم لا يكون يفقهون قولا. نعم، انهزم الجيش منذ عام ١٩٥٦ في الحروب التي خاضها ضد حركات ومليشيات ولم يستطع أن يحسم أي حرب، وهو الجيش الوحيد الذي يقاتل شعوبه ولا يقاتل من اجل استرداد أراضي الدولة من احتلال جيوش الدول الأخرى لها. فإذا افترضنا أن الدعم انهزم في الخرطوم وهو جيش به مئات الآلاف من المقاتلين والمشاة والمدفعية بل و(الطيارين الحربيين) و(البحريين).. الخ، فهل يتصور العقل الشمالي المحدود أن الحرب انتهت بخروج الدعم من الخرطوم، رغم أن الجيش فشل في إنهاء أي حرب مع مليشيات وحركات مسلحة أقل من الدعم السريع قوة وأقل عتادا وأقل تدريباً؟ إن هذا لشيء عجاب؟ حقاُ هؤلاء القوم سواءُ عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يرجعون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، يخربون بيوتهم بأيديهم وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً. أقول الحق والحق أقول، أن هذه التي يسمونها حرباً ليست حرباً في الواقع، بل أقول -فمن شاء فليصدق وأكثرهم لنا من مكذبين- أقول بأن الحرب في الواقع لم تبدأ بعد. بل ما كان يحدث طوال السنتين الماضيتين ليست سوى مناوشات، أما الحرب الحقيقية، فهي حين يحاط بهم من كل جانب فتزيغ الأبصار وتبلغ القلوب الحناجر فما لهم يومئذٍ من وليّ ولا نصير، يومئذ يقول السفهاء منهم: لو كنا نستمع للناصحين، يومئذ لا تغني نفس عن نفس شيئاً ولا مهرب لهم منه ولا نفير. لذلك فعلى العقلاء من أبناء الشمال -إن كان فيهم عاقل- أن يستمعوا لنصحي وأن يتذكروا إن كانوا من المذَّكِّرين، فيبدأوا بالاعتذار عما اقترفوه في حقوق الشعوب الأخرى ويجنحوا للاعتراف بحق الآخر في الحياة الكريمة وتساوى الفرص والتوزيع العادل للسلطة والثروة. لقد قلت قبل سنوات، أن الشعوب السودانية لم تعد تلك الشعوب القديمة، لذلك فلا يمكن أن تشبع أقلية وتظل الأغلبية جائعة، فإما أن يشبع الجميع أو يجوع الجميع، وهذا هو العدل، فمن أعرض عن الحق فلا يلومن إلا نفسه، ذلك أن الله لا ينصر الظالمين. وكان الله من وراء القصد وإلى الله ترجع الأمور
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة