لا يزال الإعلام، ذلك العملاق الذي يُروَّج لقوته واستقلاله في الغرب، يُساق كأسيرٍ في أيدي السياسيين الذين يحوّلونه إلى أداة طيعة لخدمة أجنداتهم الخاصة بعيدًا عن مصالح الجماهير التي يفترض أن يكون صوتها الصادق. فالحرية الإعلامية، التي تُرفع كشعار برّاق، ليست سوى سرابٍ يلوح في أفقٍ تحكمه مصالح مراكز القوى السياسية والاقتصادية المتشابكة. هذه المراكز،بوسائلها الخفية والعلنية، تُمسك بخيوط اللعبة الإعلامية، فتُوجّه الرسائل وتُشكّل الوعي وفقًا لأهوائها. الإعلام، الذي يُفترض أن يكون مرآة تعكس حقائق المجتمع، يتحوّل أحيانًا إلى سيفٍ ذي حدين: قد يكون أداة لتعزيزالديمقراطية والشفافية، أو سلاحًا يُهدّد استقرار المجتمعات ويُضعف ثقةالجمهور في المؤسسات الإعلامية ذاتها. ما حدث مؤخرا بين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يسلط الضوء على خطر الاستغلال السياسي للإعلام وضرورة الحذر منه. ففي مشهد غير مسبوق، استغل ترامب فارق القوة السياسية والاقتصادية بين بلاده، وأوكرانيا للنيل من زيلينسكي، ليس فقط لإضعاف موقفه، بل لتصويره أمام الرأي العام العالمي في صورة الرجل الضعيف، وربما المهان. وما زاد الأمر خطورة أن إدارة ترامب تعمدت أن تكون هذه المشادة – التي كسرت كل الأعراف الدبلوماسية – على الهواء مباشرة، ما جعلها أقرب إلى استعراض سياسي يخاطب الداخل الأمريكي أكثر من كونها تعبيرًا عن موقف دبلوماسي. هذه الحادثة ليست استثناءا، بل تأتي ضمن نمط تاريخي من توظيف السياسيين للإعلام كأداة لبسط نفوذهم. فالسياسيون يدركون أن الإعلام هو أقوى سلاح في تشكيل الرأي العام، ولهذا يسعون دائمًا إلى احتوائه، سواء عبر التأثير المباشر أو غير المباشر. قد يكون ذلك من خلال التحكم في التمويل، أو عبر الضغط السياسي، أو حتى عبر التحالفات غير المعلنة بين المؤسسات الإعلامية ومراكز النفوذ. استقلالية الإعلام، التي لطالما تباهت بها الديمقراطيات الغربية، تبدو اليوم أقرب إلى السراب، حيث يجري التلاعب بالأخبار وتوجيه التغطيات، ويتم تضخيم بعض القضايا أو التعتيم على أخرى وفقًا لمصالح معينة. فرغم أن الإعلام يُوصف بأنه “السلطة الرابعة”، إلا أنه في كثير من الأحيان لا يكون في يد الشعوب، بل في أيدي من يجيدون استغلاله. يستخدم السياسيون الإعلام كأداة للتأثير في الرأي العام وتوجيهه، عبر خلق الجدل، وتصنيع الأزمات، والتحكم في الأجندة الإعلامية. لذلك، يجب على الجمهور أن يكون واعيًا بهذه الأساليب، وألّا يكتفي بما يُنقل إليه، بل يبحث عن الحقائق بنفسه. إن الحاجة إلى إعلام حر ومستقل باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، خاصة في ظل تصاعد الصراعات السياسية والاقتصادية. فالمجتمعات التي تعتمد على إعلام مُسيّس لن تكون قادرة على اتخاذ قرارات واعية، لأنها تُحرم من المعلومة الحقيقية، ويتم توجيهها وفق أجندات تُخفي أكثر مما تُظهر. يدرك السياسيون أن الإعلام هو أقوى أداة للتأثير في المجتمعات، فهو لا يقتصر على نقل الأخبار، بل يصنعها، ويحدد أولويات الجمهور، ويؤثر في طريقة فهمهم للأحداث. لهذا، نجد أن السياسيين يستغلون الإعلام بأساليب متعددة لخدمة أجنداتهم، سواء عبر القنوات الرسمية أو الإعلام الموجه أو حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يستخدم السياسيون نفوذهم لتحديد القضايا التي يجب أن تحتل الصدارة في وسائل الإعلام. فبدلًا من ترك الإعلام يعمل بحرية، يتم توجيهه للتركيز على مواضيع معينة وصرف الانتباه عن أخرى. كذلك غالبا ما يلجأ السياسيون إلى خلق صورة لعدو مشترك—سواء كان حزبًا معارضًا، أو قوة خارجية، أو فئة اجتماعية معينة—ثم يقدمون أنفسهم كالحل الأمثل لحماية الشعب. ولا يخفى أن السياسيين يتلاعبون بالمصطلحات لجعل الحقائق أكثر قبولا أو أقل تهديدا. فضلا عن أن بعض السياسيين يمتلكون وسائل إعلامية موالية، أو على الأقل لديهم نفوذ قوي على بعضها. يستخدم بعض السياسيين أسلوب التصريحات الصادمة لإثارة الجدل وإشغال الإعلام. كما يتم تسريب معلومات أو وثائق معينة إلى الإعلام في توقيت مدروس لخدمة أجندة معينة. بعض السياسيين يعمدون لإثارة قضية معينة أو أزمة مفتعلة، مثل التحذير من "خطر داهم" أو "مؤامرة"، ثم يظهرون لاحقًا كمَن يملك الحل لإنهاء الأزمة، مما يزيد من شعبيتهم. إن الخلاف بين ترامب وزيلينسكي يكشف كيف يمكن للسياسيين استخدام الإعلام لتشويه سمعة الخصوم وتحقيق أهداف سياسية، حتى في أوقات الأزمات الدولية الحساسة. كما يظهر كيف يمكن أن تؤدي هذه التصريحات إلى إثارة التوترات السياسية وتقويض الثقة بين الحلفاء. ولعل الذي بين الرجلين ليس خلاف رؤى سياسية بين بلدين، وإنما هو خلاف شخصي بينهما تمتد جذوره منذ فترة حكم ترامب الأولى (2017 – 2021). واليوم يحاول ترامب أن يوظف الإعلام لرد الصاع صاعين. إن استخدام الإعلام بشكل سلبي من قبل السياسيين لا يهدد فقط سمعة الأفراد، بل يقوض أيضًا ثقة الجمهور في المؤسسات الإعلامية والسياسية. الحادثة الأخيرة تظهر كيف يمكن للدراما الإعلامية أن تؤثر على العلاقات الدولية وتخلق توترات غير محسوبة العواقب. هناك ضرورة قصوى لحماية المجتمع من الاستخدام السلبي للإعلام، من خلال تعزيز الشفافية والتوعية الإعلامية، وتعليم الجمهور كيفية تحليل المعلومات وتمييز الحقائق من الأكاذيب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة