إذا كنتَ من سكان الخرطوم، فمبروك! أنت تلقائيًا من علية القوم، تعيش بين القصور، تشرب القهوة الإيطالية، وتتنقل بطائرة خاصة بين السوق العربي وكافوري. هذا – طبعًا – وفق السردية السائدة التي تجعل الخرطوم "لاس فيغاس إفريقيا"، وسكانها مجموعة من النبلاء المدللين الذين يسبحون في بركة من الامتيازات، بينما بقية السودان ينظر إليهم بحسدٍ ممزوج بالغضب. لكن دعونا نفتح الستار عن هذا المشهد السينمائي المزعوم، ونلقي نظرة على الواقع كما هو، لا كما يصوره خيال الخطابات الشعبوية.
أولًا: سكان العاصمة – بين وهم الامتياز وحقيقة "الغُبينة" التركيبة الطبقية- نعم، الخرطوم بها "ناس مرتاحين"، لكن نسبتهم لا تتجاوز 5%، أي هؤلاء الذين تراهم في مطاعم البرغر المبالغ في سعره، ويصورون قهوتهم على "إنستغرام". أما الـ95% الباقون؟ حسنًا، هؤلاء هم عمال المصانع، وأصحاب "الدرداقات"، والموظفون الذين تُدفع لهم الرواتب بروح رياضية وكأنها صدقة شهرية، والطلاب الذين يقضون يومهم متنقلين بين "المواصلات ما شغالة" و"الكبري مقفول بسبب مظاهرات". الخرطوم ليست لأهل الخرطوم وحدهم -المفاجأة الكبرى؟ حوالي 80% من سكان العاصمة هم مهاجرون من الأقاليم، جاءوا بحثًا عن لقمة العيش، ليكتشفوا أن لقمة الخرطوم تجب أن تبتلعك قبل أن تبتلعها. القرى الحضرية صارت هي النمط السائد، حيث تمتد مدن كاملة بأسماء قُرى من كردفان ودارفور والشرق، وكأن العاصمة نفسها استعمرت من الريف. ثانيًا - من الذي اخترع أسطورة رفاهية الخرطوم؟ يبدو أن هناك خط إنتاج متكامل لصناعة هذه الأسطورة، يشمل الإعلام، والسياسيين، والأغاني، وحتى السوشيال ميديا. الإعلام- الناقل الرسمي للكذب الاجتماعي الإعلام الحكومي دائمًا ما يتحدث عن مشاريع تطوير العاصمة، لأن بناء شارع في الخرطوم يبدو خبرًا أكثر أناقة من افتتاح بئر في النيل الأزرق. النتيجة؟ إحساس متضخم بأن العاصمة هي مركز التنمية الوحيد، رغم أن غالبية سكانها لم يشاهدوا أي مشروع تنموي سوى في أحلامهم! الأغاني الشعبية: "الخرطوم قهوة وسكر"! كم مرة سمعتم الأغاني التي تتغزل في الخرطوم باعتبارها مدينة الأحلام؟ "الخرطوم قهوة وسكر"، بينما في الواقع، الخرطوم هي "موية مقطوعة وكهرباء ما في". الفن كان أحد الأدوات التي ساهمت في الترويج لصورة زائفة عن العاصمة. السياسة الخرطوم كبش الفداء الرسمي لكل الفشل لماذا تتحمل السلطة مسؤولية سوء التنمية إذا كان بإمكانها ببساطة أن تلقي اللوم على "أولاد العاصمة"؟ على مر السنين، تم تقديم الخرطوم كعدو مشترك، تمامًا كما تفعل الأنظمة الفاشلة حين تحتاج لصناعة عدو وهمي يصرف النظر عن فسادها وسوء إدارتها. ثالثًا - الخرطوم والهامش – علاقة حب وكراهية أم صراع البؤساء؟ هناك وهمٌ بأن الصراع في السودان هو بين العاصمة والأقاليم، بينما الواقع يقول إن الصراع الحقيقي هو بين الجميع ضد منظومة اقتصادية فاشلة. هل الفقر في الأبيض أقل حدة من الفقر في الحاج يوسف؟ هل معاناة النازح في معسكرات دارفور تختلف عن معاناة الأسرة التي تسكن في غرفة واحدة بأمبدة؟
إن الخرطوم ليست كيانًا منفصلًا عن السودان، بل هي خلاصة السودان كله – بثرائه وفقره، بألمه وأمله. الفارق الوحيد؟ في الخرطوم، يمكنك أن ترى كل ذلك في شارع واحد، حيث يقف برجٌ زجاجي فخم بجوار بائع متجول ينام على الرصيف.
رابعًا- نحو عدالة تتجاوز الخرطوم والهامش إذن، ما الحل؟ هل نوزع سكان العاصمة بالتساوي على الولايات الأخرى كي ننهي "الامتياز" المزعوم؟ أم نحرق الخرطوم كما يقترح بعض الثائرين على تويتر؟ طبعًا لا. الحل الحقيقي هو بناء تنمية متوازنة تجعل السوداني لا يحتاج إلى الهجرة للعاصمة أصلاً، وتنهي هذه الثنائية الوهمية بين المركز والهامش.
الخرطوم لم تأكل السودان، ولم تسرق موارده. الخرطوم، مثل أي مدينة أخرى، مجرد ساحة لمعركة البقاء اليومي التي يخوضها الجميع، سواء كانوا في العاصمة أو في الأطراف.
لكن طالما بقي الخطاب السياسي يتغذى على خلق الأعداء الوهميين، فإننا سنظل ندور في هذه الدوامة، حيث يظن الفقراء في الهامش أن الفقراء في العاصمة يعيشون في رخاء، بينما يواصل الأثرياء الحقيقيون نهب البلاد بهدوء تام، دون أن يذكرهم أحد.
@ما أرمي اليه هو الخرطوم ليست المشكلة، المشكلة في من يريدوننا أن نصدق أنها المشكلة
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة