قائد طارئ في سياق معقد ما هي فرص البرهان لحكم السودان؟
منذ الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل 2019، برز الفريق أول عبد الفتاح البرهان كشخصية محورية في المشهد السياسي السوداني، كأنما القدر قد اختاره ليقود سفينة البلاد في بحر مضطرب من التحولات والصراعات. تولى قيادة المجلس العسكري الانتقالي بعد استقالة الفريق أول عوض بن عوف، مدعومًا بتأييد واسع من القوى السياسية التي تصدرت المشهد آنذاك، فضلًا عن دعم قوات الدعم السريع، والتأييد التلقائي من الجيش. كانت تلك المرحلة بداية لتوازن هش ومعقد بين القوى العسكرية والمدنية، بعد دخوله في مفاوضات مع قوى الحرية والتغيير (قحت) لتحديد المرحلة الانتقالية، تصاعد التوتر سريعًا بين الطرفين لتحديد شكل المرحلة الانتقالية. لكن سرعان ما تصاعد التوتر بين الطرفين، خاصة بعد فض اعتصام القيادة العامة للجيش في يونيو 2019، وهو الحدث الذي أثار عاصفة من الغضب الشعبي، لكنه في الوقت نفسه عزز موقع البرهان في المعادلة السياسية، وكأنه صعد على أمواج متلاطمة من الأزمات.
في أغسطس 2019، أصبح البرهان رئيسًا للمجلس السيادي الانتقالي، محاولًا أن يقود مركبا ممزق الأشرعة في بحر مضطرب من الصراعات بين التيارات الإسلامية المحافظة والعلمانية اليسارية المرتبطة بالغرب. لكن الرياح لم تكن دائما في صالحه، ففي أكتوبر 2021، قاد ما أسماه "حركة تصحيح المسار"، بينما وصف خصومه ذلك بالانقلاب العسكري، حيث أطاح بحكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، معززا قبضته على السلطة. ومع ذلك، وجد نفسه في مواجهة ضغوط إقليمية ودولية مؤيدة لحمدوك، مما جعله يتأرجح بين القبول، والرفض على الساحة الدولية. رغم اعتماده على الجيش وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، فإن التوترات الداخلية والتحديات الاقتصادية والسياسية جعلت موقفه يشبه بناءا من الرمال المتحركة، حيث يجد نفسه في توازن هش بين القوى المحلية والإقليمية والدولية، في ظل مشهد سياسي معقد، ومفتوح على احتمالات عدة.
المفارقة الكبرى تكمن في أن قوات الدعم السريع، والتي كانت شريكا رئيسيا للبرهان في السيطرة على السلطة بعد إطاحة البشير، أصبحت تمثل التهديد الأكبر له. فبعد أن ساهمت في تعزيز نفوذه العسكري، والسياسي من خلال دعمها في أحداث حاسمة مثل فض الاعتصام وإجراءات تصحيح المسار أو الانقلاب العسكري حسب خصومه، فقد انقلبت هذه القوات إلى عدو لدود، حيث يخوض الآن حرب وجود ضروس ضدها. والأكثر إثارة للدهشة أن الحماقة التي أقدمت عليها قوات الدعم السريع في محاولتها الانقلابية في 15 أبريل 2023، وما ارتكبته من جرائم إبادة جماعية واغتصاب وسرقة وتدمير للبنى التحتية بعد أن تحولت إلى مليشيا إجرامية، أتاحت للبرهان فرصة غير مسبوقة للالتفاف الشعبي حوله. هذا التأييد الشعبي، الذي جاء كرد فعل على فظائع (الدعم السريع)، زاد من طموح البرهان لقيادة البلاد ليس فقط في فترة ما بعد الحرب، بل أيضا في مرحلة ما بعد الفترة الانتقالية.
لكن السؤال الذي يظل معلقا في الهواء هو: ما هي فرص الرجل في إطالة أمد هذا السياق المعقد؟ هل سيتمكن من تحويل الالتفاف الشعبي المؤقت إلى شرعية دائمة، أم أن التحديات الداخلية، والخارجية ستجعل موقفه كقارب يكافح للبقاء وسط عاصفة لا ترحم؟ في النهاية، يبقى مستقبل البرهان مرهونًا بقدرته على تحقيق توازن شبه مستحيل بين القوى المتصارعة، في وقت يبدو فيه المشهد السياسي السوداني كقطعة شطرنج معقدة، كل حركة فيها تحمل في طياتها احتمالات النصر أو الهزيمة.
خلفيات وملابسات صعود البرهان:
وصل البرهان إلى موقعه الحالي باعتباره شخصية رئيسية في السودان، حيث يجمع بين السلطات العسكرية، والسياسية في ظل ظروف مضطربة، وانتقالية. بدأت الأحداث باحتجاجات شعبية واسعة ضد حكم البشير الذي استمر لأكثر من 30 عامًا، حيث طالبت الجماهير بإسقاط نظامه بسبب الأزمات الاقتصادية والفساد. في 11 أبريل 2019، أطاحت اللجنة الأمنية (مشكلة من وزير الدفاع وقادة في الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى) بالبشير وتشكل مجلس عسكري انتقالي بقيادة وزير الدفاع الفريق أول عوض بن عوف، الذي استقال بعد يوم واحد فقط تحت ضغط قائد قوات الدعم السريع وقوى الحرية والتغيير التي كانت تتحكم في الشارع الغاضب حينها.
بعد استقالة بن عوف، تولى البرهان، الذي كان يشغل منصب المفتش العام للجيش، قيادة المجلس العسكري الانتقالي في 12 أبريل 2019. كان البرهان يتمتع بدعم مقدر داخل الجيش واعتبر شخصية مقبولة نسبيا من قبل (الدعم السريع) و(قحت). خلال هذه الفترة، بدأت مفاوضات بين المجلس العسكري و(قحت) لتحديد شكل الفترة الانتقالية. ومع ذلك، تصاعدت التوترات بعد فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم في 3 يونيو 2019، مما أدى إلى مقتل عشرات المتظاهرين وزيادة الضغط على المجلس العسكري.
في أغسطس 2019، تم التوصل إلى اتفاق بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير لتشكيل مجلس سيادي انتقالي يتكون من 11 عضوا (5 عسكريين و6 مدنيين) لقيادة الفترة الانتقالية. في 21 أغسطس 2019، تم تعيين البرهان رئيسا للمجلس السيادي الانتقالي، بينما تم تعيين عبد الله حمدوك، اقتصادي مدني، رئيسا للوزراء. خلال الفترة الانتقالية، كان البرهان يمثل السلطة العسكرية في السودان، بينما تولى حمدوك وحكومته المهام التنفيذية. ومع ذلك، استمرت التوترات بين العسكريين، والمدنيين حول السلطة ومسار الانتقال الديمقراطي.
في 25 أكتوبر 2021، قاد البرهان مسارا تصحيحيا أطاح بالحكومة الانتقالية بعد تصاعد الخلافات داخل (قحت) نفسها، وتدهور الأوضاع الاقتصادية لمستوى غير مسبوق. فأعلن البرهان حل المجلس السيادي والحكومة وفرض حالة الطوارئ. بعد هذا الحدث، عاد البرهان ليكون الشخصية الأبرز في المشهد السياسي السوداني، حيث تولى السلطة بشكل فعلي وأدار البلاد بمساعدة العسكريين، وقوى مدنية مناوئة ل(قحت). بهذه الطريقة، وصل البرهان إلى موقعه الحالي كشخصية رئيسية في السودان، حيث يجمع بين السلطات العسكرية والسياسية في ظل ظروف مضطربة وانتقالية.
موازنة صعبة بين القوى السياسية:
يواجه البرهان تحديا كبيرا في إدارة العلاقة بين التيارات السياسية المتنافسة في السودان، حيث يحاول الموازنة بين التيار الإسلامي والتيار العلماني اليساري دون الالتزام الكامل مع أي منهما. التيار الإسلامي، المتمثل في جماعات مثل حزب المؤتمر الوطني الذي كان يحكم في عهد عمر البشير، يتمتع بقوة تنظيمية كبيرة وخبرة واسعة في الحكم. هذا التيار، رغم تراجع نفوذه بعد الإطاحة بالبشير، لا يزال يحاول العودة إلى المشهد السياسي من خلال التحالفات الخفية أو العلنية مع بعض القوى العسكرية والسياسية. خبرته في إدارة الدولة وقدرته على تعبئة القواعد الشعبية تجعله لاعبا لا يمكن تجاهله لا سيما في حفز المقاومة الشعبية التي أحدثت فرقا كبيرا في مواجهة (الدعم السريع) في الحرب الحالية، مما يضطر البرهان إلى التعامل معه بحذر لتجنب استفزاز قواعده أو خلق توترات إضافية. من جهة أخرى، يمثل التيار العلماني اليساري، المتمثل في تحالفات مثل قوى الحرية والتغيير (قحت) التي تحولت لاحقا إلى (تقدم) ثم (صمود) بقيادة حمدوك، وتشكل قوة ضاغطة على البرهان للمضي قدما في عملية تحول ديمقراطي يعزل فيه التيار الإسلامي تماما. ويحاول البرهان موازنة العلاقة بين هذين التيارين من خلال اتباع سياسة مرنة تهدف إلى إرضاء الطرفين دون الالتزام الكامل مع أي منهما. من ناحية، يتعامل مع التيار الإسلامي بتحفظ، حيث يسمح له بحضور محدود في المشهد السياسي دون منحه نفوذا كبيرا قد سلطته. من ناحية أخرى، يحاول استيعاب بعض مطالب التيار العلماني اليساري من خلال تقديم وعود سياسية مع الحفاظ على السيطرة العسكرية على مقاليد الأمور. هذه السياسة المرنة تهدف إلى تجنب الاصطدام المباشر مع أي من التيارين، ولكنها أيضا تعرض البرهان لانتقادات من كلا الجانبين، حيث يراه الإسلاميون مترددا في دعمهم، بينما يراه العلمانيون جزءا من نظام عسكري يعيق التحول الديمقراطي.
في النهاية، توازن البرهان بين هذه القوى السياسية يبقى تحديا كبيرا، حيث يتطلب إدارة دقيقة للمصالح المتناقضة وتجنب الانحياز الكامل لأي طرف. نجاحه في هذا التوازن يعتمد على قدرته على الحفاظ على دعم الجيش مع تقديم تنازلات محدودة لإرضاء القوى السياسية، لكن أي خطأ في هذه المعادلة قد يؤدي إلى تهديد استقرار حكمه ومستقبله السياسي. ومنذ إجراءات أكتوبر 2021، واجه البرهان معضلة البحث عن حاضنة سياسية لضمان استمراره في السلطة. تاريخيا، لجأت الأنظمة العسكرية في السودان إلى تأسيس كيانات سياسية موالية، مثل "الاتحاد الاشتراكي" في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري (1985 - 1969)، لكن تكرار هذه التجربة يواجه تحديات بسبب تغير طبيعة القوى السياسية وكيمياء الكتلة الجماهيرية. ولذا قد يلجأ البرهان على الإدارات الأهلية والطرق الصوفية ورجال الأعمال، لكنها قوى غير قادرة على توفير شرعية دائمة. في ظل هذه المعطيات، يظل البرهان في وضع سياسي هش، يفتقر إلى حاضنة متماسكة تضمن له الاستمرار. أما اعتماد البرهان على الجيش كدعامة رئيسية لحكمه، حيث وفر له الحماية منذ الإطاحة البشير، أمر لا يمثل ضمانة مستمرة إذ أن نظام الجيش لا يعطي قائده (شيك على بياض)، خاصة مع استمرار الضغوط السياسية والاقتصادية.
بالإضافة إلى ما سبق فإن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، مع تراجع الجنيه السوداني بفعل ارتفاع معدلات التضخم، تجعل بقاء البرهان في السلطة أكثر صعوبة. فضعف الخدمات الأساسية يفاقم الاحتقان الشعبي، ويجعل الاحتجاجات العفوية احتمالا قائمًا. كما أن القوات الأمنية نفسها قد تتأثر بالأوضاع المعيشية المتدهورة، مما قد يؤدي إلى تصدعات داخل الجيش. في ظل هذا الوضع، يواجه البرهان خيارين: تقديم تنازلات سياسية لكسب الدعم الاقتصادي، أو الاستمرار في الاعتماد على الموارد الذاتية، وهو ما يعني استمرار التدهور وزيادة الغضب الشعبي. بيد أن البرهان يجظى بدعم إقليمي من بعض الدول أبرزها مصر التي ترى في استقرار السودان مصلحة إستراتيجية لها. في المقابل، تواجه حكومته ضغوط دولية، إذ علقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مساعداتهما، بزعم المطالبة بانتقال ديمقراطي. فهل يستطيع البرهان المناورة بين كل هذه الضغوط عبر تعزيز علاقاته مع حلفائه الإقليميين، أو تقديم تنازلات سياسية محدودة لاستعادة الدعم الدولي؟.
سيناريوهات مستقبل البرهان السياسي:
تتراوح خيارات البرهان بين: تكوين حاضنة سياسية جديدة عبر استقطاب قوى تقليدية، لكنه يواجه تحديات اقتصادية وسياسية تعيق نجاح هذا الخيار. أو الاستجابة للضغوط الداخلية والخارجية وإجباره على التنحي، خاصة مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية والتظاهرات الشعبية المحتملة. أو حدوث انشقاقات داخل الجيش تطيح به، إذا تصاعدت الخلافات داخل المؤسسة العسكرية أو تصاعدت الآثار السلبية في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب. في المحصلة، يظل بقاء البرهان في السلطة مرهونًا بقدرته على المناورة بين هذه التحديات، لكنه يواجه وضعا غير مستقر قد يهدد مستقبله السياسي واحتمالات استقرار حكمه. فلا يبدو حتى الآن أن لدى البرهان أي رؤية سياسية واضحة وإنما يتعامل مع الأزمات بردود فعل آنية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة