أيها العالم المتخم بالخطب الرنانة عن القيم والأخلاق، كيف حالك اليوم؟ أما زلت تصرُّ على أن العدل قيمة عليا؟ أما زلت تلوك كلمات كـ"الرحمة"، و"الإيثار"، و"الكرامة" بينما نحن، نحن الذين لفظتنا أرضنا كما تُلفظ العلكة اليابسة، نقف في طابور الحياة حاملين بطاقات النزوح بدلًا من جوازات السفر؟
تكلّموا عن الإنسانية كما شئتم، فأنا – نازح الحرب – صرت أعرف حقيقتها. إنها مجرّد وهم فاخر يباع في كتب الفلاسفة ويُستهلك في المؤتمرات المصطنعة. أتدري ما معنى أن تفقد بيتك؟ لا، ليس البيت بمفهومه المادي، فالحياة في المخيمات علّمتني أن الجدران ليست شيئًا هامًا. إنما أعني بذلك فقدان الحق في الشعور بالاستقرار، في امتلاك زاوية تخصّك وحدك. أن تكون مجرّد كائن زائد عن الحاجة، مرفوض من الجميع حتى من السماء، كأنك زائد على قسمة الأرزاق.
إنني الآن في حرب ليس بين طرفين مسلّحين، بل بيني وبين نفسي. أتساءل: أيهما أولى؟ أن أحافظ على إنسانيتي، أم أن أتنازل عنها كي أعيش؟ إنهم يطالبونني بالإيثار، لكن كيف أُؤْثِر وأنا لا أملك حتى ما يكفي نفسي؟ كيف أتحدّث عن الأخلاق وأنا أرى أمامي شريعة الغاب وقد صارت دستورًا معتمدًا؟ لقد خُلقنا بجبلة أنانية، ثم جاءت هذه الأكاذيب الكبرى عن التضحية والعدالة لتجعل منا حمقى نندفع للموت من أجل الآخرين، بينما هم – المتخَمون في قصورهم – يكتبون عنّا قصائد الفداء.
آه، كم تغيّرتُ! بالأمس كنت أؤمن بالمُثل، كنت أخجل إن رأيت جائعًا ولم أطعمه، كنت أردد: "الموت بشرف خير من حياة الذل"، أما اليوم، فلا، اليوم تعلّمت أن الحياة بلا كرامة لا تزال حياة، وأن الذل ليس أسوأ المصائر، بل الأسوأ هو أن تُقتل وأنت تحاول أن تكون إنسانًا في عالم لم يعد يؤمن بالبشرية.
إنني، بكل بساطة، أريد أن أعيش. فقط أن أعيش. ولو كان الثمن أن أغلق أذني عن صرخات المستغيثين، وأن أمرّ بجوار الجائعين دون أن ألتفت، ولو كان الثمن أن أفقد بعضًا من ضميري كل يوم، فلا بأس. فالذين يتحدثون عن القيم يعيشون بعيدًا عنها، وأنا عشت قربها حتى التهمتني.
في النهاية، عندما تضع الحرب أوزارها – إن فعلت – لن يتذكر أحد مآسينا، لن يعبأ أحد بضحايانا، سيعود الفلاسفة للحديث عن الفضيلة، وستعود المدن للغناء، أما نحن، فسنظل نتساءل: أين ذهبنا؟ وأين انتهت إنسانيتنا؟
أعلم أنك أصغر من نملة، وأحقر من قطرة دم برغوث، لكنني – يا للعجب – أتحوّل كل يوم إلى ما هو أصغر وأحقر... فقط كي أبقى.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة