"كنت هناك".. في تلك الحفلة بالذات.. وحين أخبرت أحفادي الجالسين أمامي في مواجهة التلفاز، لم يصدقني أحد منهم؛ بل -في الواقع- لم يكترثوا لحديثي. لقد كان المصور يسلط عدسته على الفتيات الجميلات. ولكنني كنت هناك.. نعم.. كانت زيارة عابرة لمطرب يوناني اشتهر قبل ستين عاماً وارتفع صداه في كل العالم بأغنية يتيمة بعنوان "حماقات الفتيات الجميلات". كانت مزيجا من البوب والبلوز والفالس.. وقد أعجبت الأغنية حينها الفتيات الجميلات الحمقاوات بالفعل. في الواقع كانت الفتيات يحببن وسامة المطرب أكثر من أغنيته وإذا أُعجبت الفتيات الجميلات بأحدٍ فقد نال الشهرة لا محالة، ولأن كل واحد منا كان لديه فتاة تحب ذلك المطرب، لذلك انتهزنا الفرصة لدعوتهن للحفل إذ كان كان الرفض مستحيلاً في مثل هذه الحالات النادرة لشعوب أفريقية خرجت لتوها من الاستعمار دون أن تجني من استقلالها شيئاً سوى انحلالها في البدائية. لقد ارتدينا ملابس ذلك العصر، تلك الملابس التي بدأنا نخجل من ارتدائها بعد أن تجاوزنا الأربعين. أو حتى ربما قبل ذلك، ربما منذ أن تجاوزنا الثلاثين. وكانت أمسية جميلة، لذلك لم نهتم للتصوير بل لسعادة وارتياح فتياتنا الجميلات الحمقاوات. وها هم أحفادي يشاهدون أولئك الفتيات بالتفاتاتهن الحمقاء، وتكلفهن في التبسم، وقد أغرقن وجوههن بالمساحيق الصاخبة، وبصرخاتهن المفاجئة حين يرقص المطرب اليوناني فجأة محركاً مؤخرته وأفخاذه بطريقة إيحائية. ولوهلة رأيت عدسة الكاميرا تسقط على وجهي ثم على وجه فتاة تجلس إلى جانبي. كانت أقلهن ابتهاجاً بما توحي به ملامحها الجامدة. فصحت: "هذا هو أنا".. لكن أحفادي لم ينتبهوا لتلك اللقطة العابرة لذلك بدوت كالأحمق، فكممت فمي بالصمت. ولكن.. من تلك الفتاة التي كانت معي؟ ولماذا كانت متجهمة هكذا؟ يبدو أنها لم تكن تحبني بل قبلت الدعوة لكي تشاهد المطرب اليوناني فقط. هي بالتأكيد ليست جدة أحفادي، وليست زميلة في الدراسة؟ فمن هي؟ بدَّلَ أحفادي القناة التلفزيونية فحملتُ رقعة الشطرنج وذهبت بها إلى غرفتي، تناولت أدوية البروستاتا والضغط والسكري وآلام العظام ثم تمددت قبل أن أضع رقعة الشطرنج فوق بطني محاولاً تجاهل تساؤلاتي المتعسفة عن هوية تلك الفتاة. كانت متوسطة الجمال، لها بشرة خمرية، وفوق الجانب الأيسر من شفتها العليا علامة لإصابة من عهد الطفولة، منحتها -رغم ذلك- بعض الجاذبية. رقبتها رقيقة وطويلة، ويبدو أنها كانت تحاول إطالة شعرها دون جدوى. لكن من هي؟ حاولت تذكر أحد الأحياء من الأصدقاء القدامى كي أسأله عنها؛ غير أن أغلبهم غادر الدنيا بأسباب متنوعة وفي بلاد مختلفة، و لا أعرف عن الآخرين شيئاً منذ أن افترقنا قبل عقود. من هذه الشابة؟ "كنت هناك.. ما لهؤلاء الصبية لا يكترثون بأمر الخرق البالية" همستُ لنفسي ونحيت رقعة الشطرنح ثم هبطت ببطء من سريري، وترنحت قليلاً متحسساً الجدران كي أحصل على بعض الإتزان. "سأخرج قليلاً". قلت لابنتي فاعترض زوجها: (ستضل طريقك كالعادة) قال بغضب مكتوم، لكنني تجاهلته وخرجت، فاستقبلتني رائحة قش محترق، وشتاء مهزوم. بدأت اللغة تتحجر ثم تتكسر متساقطة في هوة عالم يزداد قسوة وصراعاً يوماً بعد يوم. لكن من يشعر بالآخر كما نود جميعنا.. كما نود -عبثاً- أن يشعر بنا الآخرون. ولكن كيف لي أن أنسى تلك الفتاة. كيف لي أن افقدها من ذاكرتي التي تسترجع كل آلام الماضي ساخرة من حاضر رجل عجوز يتردى -بلا عزاء- كماعز الجبال. "من تلك التي كانت تجلس قربي؟" ربما لم تكن معي، بل هذا هو الراجح. نعم. لم أملك الجرأة الكافية لدعوة فتاة لحفل غنائي. كنا صبياناً عابثين ولكن ليس كعبث شباب اليوم، فكل الأشياء كانت شديدة الصعوبة. ربما ليس للجميع.. ليس للجميع. "ولكنها كانت تبدو متجهمة.. أليس كذلك؟ لم تكن مستمتعة بالحفل كغيرها من الصبايا؟ ربما كنت أحمقاً في ذلك العمر.. سخيفاً.. أقل رومانسية مما تتطلبه تلك المواقف العاطفية المتاججة". اصطفت ظلال الغروب تحت غمامات عالية. وتغلغلت تلك البرودة أكثر وأكثر داخل العظام. "ولكنها تستحق.. تستحق أن أتذكرها.. ربما لا تستحق.. ربما لا شيء يستحق.. وربما لم يعد هناك شيء يستحق".. لقد فقدت طريق العودة، ولكن لماذا أعود؟ لقد فقدت رغبتي في الطعام، وبالكاد أتنفس.. إن استرجاع تلك اللحظة يستحق أن يكلفني خسارة المشي لمسافات بعيدة..هنا حيث يزحف كياني الواهن كموجات ضوئية شاحبة في حلم بتخليد الوجود.. لقد ارتعشت أقدامي من المشي دون أن تسترد ذاكرتي شيئاً ذا قيمة. وشعرت بإسهال ينفذ من تحتي. "ولكن من هي؟".. "علي أن أعود.. إنها لا تستحق المخاطرة..". أدرت بصري من حولي لاستجمع خارطة الأرض فلم أتبين شيئاً، ولوهلة تذكرت نبرة صوت ما.. "ربما كان ذلك صوتها؟!".. تثاقلت خطواتي، وشعرت برأسي يدور.. وحين سقطت.. تذكرت كل شيء.. كل الماضي تقريباً..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة