في زوايا القصر الرئاسي، حيث تتداخل الظلال مع أضواء السلطة، يقف الجنرال العجوز وحيدًا، محاطًا بجدران من الشك والتردد. إنه الفريق البرهان، الرجل الذي حمل على عاتقه عبء قيادة دولة تعاني من تشظٍّ سياسي واجتماعي واقتصادي. منذ سقوط نظام الإنقاذ، وحتى استلامه لمهام القائم بأعمال الرجل الأول في الدولة، يعيش البرهان حالة من العزلة والتغريب، ليس فقط عن محيطه، بل عن ذاته أيضًا. إنه رجلٌ ضائع في متاهة من التناقضات، يحاول أن يجد لنفسه مكانًا تحت الشمس، لكنه يبدو وكأنه يركض في دوائر لا نهاية لها.
الجنرال العجوز، الذي كان يومًا ما جزءًا من نظام قوي ومتماسك ظاهريًا، وجد نفسه فجأة في مواجهة واقع جديد. واقع لم يكن مستعدًا له، واقع يتطلب منه أن يكون سياسيًا محنكًا، دبلوماسيًا ماهرًا، وقائدًا ملهمًا. لكن البرهان، الذي تربى في ثكنات الجيش وتشرب قيم الانضباط العسكري، يبدو عاجزًا عن فهم تعقيدات هذا العالم الجديد. إنه يعيش حالة من التشظي الفكري، حيث يحاول أن يرضي جميع الأطراف، لكنه في النهاية لا يرضي أحدًا.
في سعيه لتحقيق التوازن، يلجأ البرهان إلى سياسة المزاجية المتقلبة. فهو تارةً يداهن العلمانيين، ويخطب ودهم، ظنًا منه أنهم المفتاح السحري لقلوب الغرب. وتارةً أخرى يعود إلى خطاب تقليدي، يحاول فيه استرضاء القوى المحافظة التي لا تزال ترتجي من الرجل خيرا . لكن هذه السياسة المتذبذبة لا تجلب له سوى المزيد من العزلة. فالعلمانيون يرون فيه رجلًا غير واضح الرؤية، بينما المحافظون يشكون في ولائه. وهكذا يجد البرهان نفسه محاصرًا من جميع الجهات، دون أن يجد من يقف إلى جانبه.
الجنرال العجوز يعتقد أن بإمكانه أن يلعب على جميع الحبال، لكنه ينسى أن الموسيقى التي يعزفها أصبحت متنافرة. فهو يحاول أن يكون علمانيًا في نظر الخارج، بينما يظل محافظًا في الداخل. لكن هذه الازدواجية لا تخدع أحدًا. فالعالم الخارجي، الذي كان البرهان يعول عليه كثيرًا، لم يعد يثق في وعوده. والشارع الداخلي، الذي كان ينتظر منه إصلاحات حقيقية، بدأ يفقد صبره.
والأمر الذي يزيد من تعقيد الأمور هو أن البرهان يعاني من "حمى الخارج"، تلك الحالة التي تصيب الكثير من القادة الذين يعتقدون أن الحلول تأتي دائمًا من خارج الحدود. فهو يعتقد أن بإمكانه أن يكسب ود الغرب بمجرد أن يتبنى خطابًا علمانيًا، أو أن يقدم تنازلات هنا وهناك. لكنه ينسى أن العالم الخارجي لا يهتم إلا بمصالحه، وأنه لن يقدم أي شيء دون مقابل. وهكذا يجد البرهان نفسه عالقًا في شبكة من الوعود الكاذبة، دون أن يحقق أي مكاسب حقيقية.
في خضم كل هذا، يبدو البرهان وكأنه فقد بوصلته. فهو لم يعد يعرف من هو، ولا ما يريد. إنه رجلٌ يحاول أن يلعب دورًا أكبر من قدراته، دورًا يتطلب منه أن يكون أكثر ذكاءً وأكثر حنكةً. لكنه يبدو عاجزًا عن فهم قواعد اللعبة الجديدة. فهو يعيش في عالم من الأوهام، حيث يعتقد أن بإمكانه أن يرضي الجميع، دون أن يدرك أن هذا مستحيل.
والحقيقة أن البرهان ليس وحده من يعاني من هذه الحالة. فالكثير من القادة الذين وجدوا أنفسهم فجأة في موقع المسؤولية، دون أن يكونوا مستعدين لها، يعيشون نفس الحالة من التشظي الفكري. لكن الفرق هو أن البرهان يبدو أكثر عجزًا عن التكيف مع الواقع الجديد. فهو يعيش في الماضي، حيث كان الجيش هو القوة الوحيدة التي تحكم البلاد. لكنه ينسى أن العالم قد تغير، وأن القواعد قد اختلفت.
في النهاية، يبقى السؤال: إلى أين يسير الجنرال العجوز في متاهته؟ هل سيتمكن من العثور على مخرج، أم أنه سيظل عالقًا في دوامة من التناقضات؟ الإجابة ليست واضحة، لكن ما هو مؤكد أن البرهان يحتاج إلى وقفة مع الذات، يحتاج إلى أن يعيد تقييم مواقفه وسياساته. وإلا فإن مصيره سيكون مثل مصير الكثيرين ممن سبقوه، رجالٌ ضائعون في متاهات السلطة، دون أن يتركوا أي أثر يُذكر.
إلى الجنرال العجوز ، نقول: إن المتاهة التي تعيش فيها ليست سوى انعكاس لحالة التشظي التي تعيشها البلاد. والخروج منها يتطلب أكثر من مجرد خطابات ووعود. يتطلب شجاعة الاعتراف بالأخطاء، وشجاعة اتخاذ القرارات الصعبة. فهل أنت مستعد لذلك؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة