أيها الوطن الجريح، يا من أثقلت كاهله أوزار تناحر أبنائه، فصار يشكو نزيف روحه وسط ضجيجهم الأعمى، كمن يحمل صخرة ثقيلة على ظهره في مسيرة أبدية لا تهدأ. أول خطوة نحو الشفاء هي أن يتحرر أبناؤك من أغلال الماضي التي قيدتهم وأرهقتهم، ليمنحوا أنفسهم فرصة الانطلاق نحو غدٍ مشرق، خال من أعباء الماضي وقيوده. أما آن للريح العاصفة بالتجديد أن تهب، فتعيد الحياة إلى أفكارهم الميتة، وتزيل عن عقولهم غبار الجمود؟ نحن نسير بخطى ثابتة نحو الهلاك، لا لأن الطريق مظلم أو مجهول، بل لأننا أغمضنا أعيننا عن نور الحكمة، ورضخنا لرؤية عمياء قيدت بصائرنا، وحجبت عنا آفاقاً أوسع. أصواتٌ متناقضة هنا وهناك مزقت وحدتنا، فانفرط عقد الكلمة، وضاع العدل، ليغدو الحق ضائعاً في فوضى الظلم وصدى الأوهام.
هل قدّر لنا أن نغرق في بحور التناحر والتشرذم، أم نستحضر شجاعة الإصلاح في ذواتنا قبل أن نطالب بها الآخرين؟ كيف نبني وأيدينا تمتد للهدم، ونحن أسرى لماضٍ لا ينتهي؟ إن عدل الوطن يبدأ من عدل الفرد، فكل ظلم يعصف بنا هو مرآة لقلوب أغلقت أبواب التسامح وأوقدت نيران الأحقاد. لقد آن لنا أن نواجه أنفسنا بصدق، نكشف جذور آلامنا، وندرك أن الوطن لا يُبنى بالأمنيات ولا تُزرع المحبة في تربة تُسقى بالكراهية. ألا يستحقّ أن نكسر قيود الفرقة ونجتمع على مائدة الحوار بحثاً عن عدل ينصف الجميع؟ ألا ينبغي أن نطهر قلوبنا من الحقد ونغرس الحكمة التي تثمر عدلاً وتنشر سلاماً؟ الوطن يُبنى بعرق الصادقين الذين يعانقون المستقبل ويبتعدون عن ظلال الماضي. وليس بخطب رنانة أو شعارات زائفة. فمن يزرع بذور الفتنة بيننا، متذرعاً بالصدق، فهو كاذب يموه خبثه بحلاوة القول. فإما أن نكون سنداً للوطن، أو نتركه يذوب في الأحقاد. لماذا نصبح أعداءً لأنفسنا ونحن قادرون على الإتحاد لبناء المستقبل؟ لقد آن لنا أن نستيقظ، وندفن الكراهية في أعماق التراب، ونصرخ في وجه الخونة: كفاكم كذباً! سئمنا من الألم الذي يسفك دماءنا بلا مبرر. معاً لكتابة فصل جديد لوطنٍ يستحق السلام والوئام.
دعونا نجعل من التسامح ميثاقاً خالداً، ومن الوحدة راية لا تلين، ومن حب الوطن نوراً يضيء مسارات البناء والعطاء. ما دام وجودنا على هذه الأرض، نستحق أن نزرع آمالاً تبني وطناً يعكس صفاء قلوبنا، لا أن يصبح ساحةً للنزاعات. كما جعل الكون من الاختلاف قانوناً أبدياً، فتتناغم الألوان في الطبيعة لتشكل لوحة من الجمال والتوازن، فلماذا لا نستخدم اختلافنا جسراً للتقارب؟ لنتعلم أن الوحدة الحقيقية تنبع من انسجام القلوب، وأن تنوعنا ليس إلا أداة للبناء لا للهدم، فلتكن اختلافاتنا دعوة للتكامل، ومصدراً لقوتنا وسلامنا.
ليس أمامنا سوى خيار واحد إذا أردنا الخروج من هذا التيه الذي أعقب الحرب، أن نؤسس هوية إنسانية جامعة، ترتكز على مكارم الأخلاق، وتعلي من شأن الإنسان وكرامته، بعيداً عن التصنيفات الضيقة التي أهدرت عقولنا وطاقاتنا. نحن نملك عقولاً متنوعة الرؤى، قادرة على الإسهام في بناء فكرٍ جمعي ثري، لكن مشكلتنا تكمن في عجزنا عن تقبّل هذا التنوع. إننا، حين نرفض شخصاً، نرفضه بالكامل، كأنما الحكمة لا تُقيم إلا في من يوافقوننا الرأي. تأملوا أسماءً مثل المحجوب، الترابي، نقد، الصادق المهدي، ابوالقاسم حاج حمد، الطيب صالح، عبدالعزيز بركات، محمد حسن حميد، حيدر الصافي، الخاتم عدلان، وأبو آمنة حامد، الفيتوري وآخرين . لكل منهم رؤيته الخاصة، ومساهمته التي تُضيء جانباً من الحياة. فلماذا نُصرّ على الرفض المطلق؟ لماذا نُقصي ما هو جميل ونافع في فكرهم، فقط لأننا نختلف معهم في بعض الجوانب أليست الحكمة ضالة المؤمن؟ أليس التاريخ شاهداً على أن الجواهر تُكتشف في أماكن غير متوقعة؟ فلِمَ لا نأخذ ما ينفعنا ونترك ما لا يناسبنا دون أن نهدم الشخص ذاته؟ تقبّل الاختلاف هو أول خطوة نحو بناء مجتمع يزهر بالتنوع، ويستفيد من كل عقل، مهما اختلفت رؤاه.
مشكلتنا أننا نغرق في مستنقع التصنيف الأعمى، نطلق الأحكام القاسية دون تمعن أو محاولة لفهم جوهر الآخر. نصنّف الناس وفق انتماءاتهم الفكرية ونرفضهم كلياً، كأنما الحكمة تُغلق أبوابها على من لا يشبهنا. إن كان شيوعياً، ننبذه، وإن كان كوزا ندوسه دوس، وإن كان جمهورياً، نكفّره، وإن كان من حزب الأمة، نصفه بالرجعية، وأما الصوفي، فنشكك في إيمانه، كأننا أوصياء على الحق ومفاتيح السماء. بهذا المنطق، نُعمّق الفرقة ونزيد الشتات، غير مدركين أننا نسير معاً نحو مصير مجهول تملؤه أحقادنا المتراكمة. ألا يكفينا ما أهدرناه من أعمار وما أشعلناه من نيران؟ ألم يحن الوقت لكسر دائرة التصنيف التي لم تجلب لنا سوى الحروب والخراب؟ تعالوا نخرج من ظلمات الأحكام الضيقة إلى نور القبول، حيث يلتقي التنوع في وحدة غنية تعزز التفاهم وتبني جسور الأمل. حيث يصبح اختلافنا مصدر ثراء لا تهديد، وتنوعنا قوة لا ضعفا. لنُطفئ نيران التعصب التي أحرقت الثقة بيننا، ونغرس بذور الاحترام التي تُنبت الوحدة والانسجام. ففي قبول الآخر خلاص من دوامة الصراع، وفي احتضان التنوع سر بقاء الأوطان وازدهارها.
لنترك خلفنا قيود التصنيف التي حبست عقولنا في قوالب ضيقة، لا ترى في الآخر إلا خصماً أو تهديداً. لنبحث في أعماق كل إنسان عن الجواهر المخبوءة التي تستحق الاكتشاف، فالحقيقة لا لون لها، والحكمة لا تُحتكر بفكرٍ واحد. تعالوا نتجاوز الأيديولوجيات التي فرّقتنا، ونعمل على بناء مجتمعٍ قائم على التفاهم والتكامل، حيث تُحتضن الأفكار المختلفة لتُثري، وتُنسج الاختلافات في لوحة وطنية واحدة. حين نقبل الآخر، يصبح الوطن أكثر من مجرد مكان؛ يتحول إلى معنى جامعٍ تحت ظلال المحبة والاحترام. دعونا نبحث عن كلمة سواء، نجتمع فيها على المشتركات بدل أن نضيع في الخلافات. الحكمة لا تنتمي إلى فئة بعينها، وقد نجدها في أماكن لم نتوقعها، فقط إن امتلكنا الشجاعة لاستكشافها. فلنصنع هويةً وطنية تنبني على قبول التنوع واحترام الاختلاف، بعيداً عن فكرة إلغاء الآخر. الوطن ليس ساحةً لتصفية الحسابات الفكرية، بل هو بيتٌ يسع الجميع، لا يزدهر إلا بماء الحكمة ونبع الاحترام المتبادل. إنه نداء للمصالحة مع الذات ومع الآخر، لبناء وطنٍ يشع نوراً من عقول منفتحة وقلوب متآلفة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة