إن فقد الجنرال جلحة لا يُعتبر فقداً لدينقا أم الديار وحدها، بل هو فقد جلل لكل الديار. جلحة ليس غالياً على ربه، فهو رجل ليس ككل الرجال، رجل قلما تجود الحياة بمثله. في شخصه صدق ووفاء تحس بهما من فصاحته وحرارة صوته، اللذين يعكسان عمق الجرح الوطني وتجلياته.
بعد أن أشعل الكيزان القتلة الأشرار نيران الحرب اللعينة، أعلن انحيازه إلى جانب قوات الدعم السريع التي وجد فيها الموقف والمنبر والصوت الذي عبر عن قضيته وقضية كل ضحايا دولة المركز الطفيلي، تلك الدولة التي أدمنت الانقلابات العسكرية وشن الحروب على أهل الهامش. لذلك، أعلن انحيازه لقوات الدعم السريع، ومنذ تلك اللحظة أطلق لقب "المشير" على قائد ثورة المهمشين، محمد حمدان دقلو. في تسجيلات عديدة، أخرس الكيزان القتلة الأشرار عندما حاولوا فبركة أخبار كاذبة عنه وعن موقفه. خرج وقتها وقالها بصوته الجهور ولسانه الفصيح إنه سيقف إلى جانب المشير محمد حمدان دقلو إلى آخر نفس في حياته، وقد فعلها هو وشقيقه موسى، رحمه الله، الذي استشهد معه نتيجة مسيرة أطلقها عبيد الطغيان، فاستشهد هو وشقيقه وعدد آخر من أبناء السودان الشرفاء.
شهد السودان ملاحم كثيرة من أجل الحرية والعدالة والمساواة، لكن ملحمة الجنرال جلحة بعد حرب 15 أبريل 2023 هي ملحمة متميزة في عدالة القضية وصدق الموقف والثبات في الدفاع عن الحق في وجه الباطل. ستظل ملحمة الجنرال جلحة محفوظة في بواطن التاريخ كمعارك أبطال الأنصار الذين ناصروا محمد أحمد المهدي في القرن التاسع عشر، وحرروا السودان كأول دولة تتحرر في إفريقيا بالشجاعة والبسالة، على رأسهم الخليفة عبدالله التعايشي وزاكي طمل وحمدان أبو عنجة وعبد الرحمن النجومي وعثمان دقنة، أبطال من كل أرجاء السودان. كما حدث في إستشهاد الجنرال جلحة الذي إستشهد معه رجال أبطال هاشم الرشيدي، وأبو سليم الرشيدي والطاهر جاه الله، قضية جمعت كل أبناء الوطن من الشرق ودارفور وكردفان والجزيرة والخرطوم والشمال.
هذا ما يميزنا في البلد الذي، رغم مؤامرات الأعداء في الداخل والخارج الذين يسعون ليلًا لتقزيمه وتقسيمه، يبقى الشرفاء يجتمعون حول الوحدة الوطنية ومضمونها السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، الذي فشلت فيه دولة 1956، بل حولت أغنى دولة في العالم إلى دولة تستجدي غذائها ودواءها. ستون عاماً وأكثر، بينما العالم يتقدم، نحن في السودان نتأخر رغم ما حبانا الله به من خيرات وثروات.
كل الشهداء الذين سقطوا في درب الحرية منحونا أغلى ما عندهم، وهو الروح والدماء، وآخرهم الشهيد البطل جلحة ورفاقه. ستبقى تضحياتهم قناديل نور للجيل الحالي الذي إمتشق البندقية في وجه القتلة الأشرار، وستبقى بوصلة وعي ونضال للأجيال القادمة لمواصلة مسيرة البناء والتعمير.
أخيراً، أقولها: نحن لن نبكي ولن نقبل العزاء في إستشهاد الجنرال جلحة ورفاقه الميامين. كل ما في قلوبنا من مشاعر قد أوقفناه حتى يتحرر السودان من الخونة والعملاء، وتتحقق أهداف التغيير في الوحدة الوطنية والحرية والعدالة الاجتماعية والسلام الذي يخاطب جذور الأزمة الوطنية حتى نقضي على الإستبداد والفساد والظلم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة