كان البلابسة والجغامسة، وهما جناحان لنظام المخلوع، يتمتعان بسلطة مطلقة في التصرف بموارد الدولة. كانت المنافذ متعددة، من عائدات الصادرات التي لم تكن تصل إلى خزائن الدولة، إلى المضاربة في أسواق الدقيق والبترول، مرورًا بالاستيلاء على العطاءات الحكومية تحت ستار "تأهيل الشركات والمقاولين". كان التأهيل في حقيقته مجرد غطاء لعمليات نهب منظمة، حيث كانت الشركات "المؤهلة" عبارة عن تكتلات فساد متمرسة في سرقة المال العام. كان المخلوع يغض الطرف عن كل هذه الممارسات، بل كان يشجع عليها ضمنيًا، بشرط واحد: "اسرقوا ما شئتم، لكن لا تقتربوا من عرشي، إلا لرفعِي فوق الجماهير!". كان المخلوع يعتمد على البلابسة والجغامسة في قمع أي معارضة. لم يترددوا في استخدام العنف المفرط ضد المواطنين في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، ولا حتى ضد طلاب المدارس الذين خرجوا للتظاهر من أجل لقمة العيش. بل إن المخلوع أطلق العنان لما يُعرف بالبلابسة، بالتواطؤ مع الجغامسة، لنشر الفوضى والعنف في الشوارع، مروجًا لشعار "أنا أو الفوضى"، وكأن الخيار الوحيد أمام الشعب هو الاستسلام لحكمه أو الغرق في الفوضى. لكن رياح التغيير بدأت تهب. انتفض الشعب عن بكرة أبيه، وخرج إلى الميادين والساحات مطالبًا بإسقاط النظام. هنا انقسم البلابسة والجغامسة على أنفسهم: اختار بعض البلابسة، وهم المستفيدون الأكبر من النظام، الوقوف إلى جانب المخلوع حتى النهاية، بينما اختار الجغامسة، بدافع المصلحة البراغماتية، الانحياز إلى صف الشعب، أو هكذا أوهموا الجميع، في انتظار اللحظة المناسبة للانقضاض على السلطة. سقط المخلوع، لكن سقوطَه لم يكن نهاية المطاف. سرعان ما ظهرت قيادات الصف الثاني من البلابسة، متحالفة مع الجغامسة، مدعية الانحياز إلى الثورة، في محاولة بائسة لتبييض صفحتهم السوداء. منذ اللحظة الأولى، بدأ هؤلاء في تخريب مسار المرحلة الانتقالية، سعيًا لعرقلة أي تقدم حقيقي نحو الديمقراطية. بلغ التخريب ذروته عندما قرر زعيم البلابسة ، المدعو "الحلمان"، الانقلاب على الثورة، بدعم من فلول نظام المخلوع، من أصحاب الثروات المشبوهة ورموز الفساد. عندها أدرك زعيم الجغامسة الخطر المحدق به، وأن البلابسة لن يغفروا له خيانته السابقة، فبدأت بوادر الحرب تلوح في الأفق. شرع زعيم البلابسة في تحصين مواقعه، ببناء الحواجز ووضع أكياس الرمل حول قيادته، بينما رد زعيم الجغامسة بنشر قواته وتسليحها بالدوشكات والأسلحة الثقيلة، محاصرًا المطارات والمواقع الاستراتيجية. وهكذا، تحولت الثورة إلى صراع دموي بين قوتين فاسدتين، كلتاهما تسعى إلى الهيمنة على السلطة وتقاسم الغنائم. تصاعد اللهب: من التناحر السياسي إلى الحرب الشاملة بعد أن أحكم زعيم البلابسة قبضته على فلول النظام السابق، مستغلًا نفوذهم المالي وشبكاتهم السرية، بات الصراع على السلطة أكثر وضوحًا. لم يعد الأمر مجرد منافسة سياسية، بل تحول إلى صراع وجودي بين قوتين عسكريتين متنافستين: البلابسة بقيادة "الحلمان"، والجغامسة بقيادة زعيمهم "حمدان "الذي يكفي أنه يمثل المؤسسة العسكرية الخلوية. بدأت مظاهر الاستعداد للحرب تظهر للعيان. لم يكتفِ زعيم البلابسة بتحصين مواقعه، بل بدأ في تجنيد المزيد من المرتزقة واستقطاب الشباب اليائس، مستغلًا تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. في المقابل، كثف زعيم الجغامسة من تحركاته العسكرية، ونشر قواته في المدن الرئيسية وحول المنشآت الحيوية، مبررًا ذلك بحماية "أمن الدولة" من "المخاطر المحدقة". كان الشرارة التي أشعلت فتيل الحرب مجرد حادثة صغيرة، ربما اشتباكًا محدودًا بين مجموعتين مسلحتين، لكنها سرعان ما تحولت إلى مواجهات عنيفة في شوارع العاصمة والمدن الأخرى. انخرط الطرفان في قتال شرس، مستخدمين جميع أنواع الأسلحة، من الرشاشات والقذائف إلى المدفعية الثقيلة والطائرات. وجد المدنيون أنفسهم عالقين بين نارين، يُقتلون ويُصابون ويهجرون من منازلهم. تحولت الأحياء السكنية إلى ساحات قتال، ودمرت البنية التحتية بشكل كبير. توقفت المدارس والمستشفيات عن العمل، وانتشرت الفوضى والسرقة والنهب. تفاقمت الأوضاع الإنسانية بشكل مريع، ونزح ملايين المواطنين إلى مناطق أكثر أمنًا، أو لجأوا إلى الدول المجاورة. لم تقتصر الحرب على العاصمة والمدن الكبرى، بل امتدت إلى مناطق أخرى من البلاد، مما زاد من تعقيد الوضع وتدهوره. انقسمت البلاد على أسس عرقية وجهوية، وتدخلت قوى إقليمية ودولية لدعم أحد الطرفين أو كليهما، مما أطال أمد الصراع وزاد من حدته. في خضم هذه الحرب المدمرة، تلاشت أي آمال في بناء دولة ديمقراطية مستقرة. تحولت البلاد إلى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، ودفع المواطنون الثمن الأكبر من أرواحهم وممتلكاتهم ومستقبلهم. أصبح الحديث عن "البلابسة" و"الجغامسة" مرادفًا للخراب والدمار والفوضى، وتحولت قصتهم إلى عبرة للأجيال القادمة. باختصار، أدت المنافسة الشرسة بين البلابسة والجغامسة، مدفوعة بالجشع والطمع في السلطة، إلى حرب مدمرة أدت إلى قتل وتشريد المواطنين وهدم بنية الدولة، وتحويلها إلى دولة فاشلة تعاني من ويلات الحرب والفقر والمرض.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة