لم يكن الوقت مناسباً للخروج في ذلك النهار الغائظ من يوم الأحد، بينما مدينة فينكس، اريزونا تغلي كالمرجل، حيث شوارعها وطرقاتها تكاد تخلو من الراجلين تحت وهج الشمس وهجيرها، عدا بعض المتشردين هنا وهناك. اريزونا لا يطيق صيفها الا اهلها الذين اعتادوا عليها واعتادت عليهم، اما ضيوفها وزوارها، فيفرون منها كما يفر الصحيح من الاجرب، ولا يكررون تجربة العودة اليها صيفاً الا للضرورة القصوى، أما شتاؤها الخالي من الجليد، والذي يذكرني بشتاء ام درمان البارد ليلاً والدافيء نهاراً، فهو المتعة بعينها، عكس ولايات امريكا الاخرى التي تموت من بردها الحيتان. كان الاسفلت حينها يبعث لهيباً اشبه بالبخار المنبعث من فوهة بركان، والهواء ساكن بلا حراك، والشمس ترسل سياط لهيبها واشعتها على الارض ومن عليها بدون شفقة او رأفة، والاشجار المخضرة على جانبي الطريق، رغم غزارتها، لم تكن تقي من حرارة الجو ولهيبه، اما الطيور، فقد توارت، مسجلةً غياباً ملحوظاً في ذلك اليوم، ولم تُرى محلقةً في الجو ولا مغردةً في الشجر. كان العرق يتصبب شلالاً من رأسي حتى أخمص قدمي، بينما كنت في انتظار قطار المترو القادم من مدينة تمبي، ومتجهاً نحو غرب الوادي. وفي محطة المترو الواقعة في شارع واشنطون مع تقاطع ٢٤ ستريت، وجدت أربعة رجال وثلاث فتيات، وكنا نستظل جميعاً تحت مظلة لا تكاد تحجب عنا ضوء الشمس، كانوا في قمة البهجة والمرح، يثرثرون ويدخنون ويضحكون بأصوات عالية، وكان احدهم يحتضن جيتاراً ويعزف عليه احياناً بشدة تكاد تمزق اوتاره، بينما إحدى الفتيات تضرب بأنامل مموسقة جميلة على صندوق بلاستيك فارغ، وتغني بصوت شجي جميل، كأنه من عالم آخر، والجميع يردد خلفها بنشوة وطرب ، غير مبالين بأحد، كأنهم تحت تأثير خمر او مخدر، كما بدا لي، وكان اكثر ما يثير في الضحك، هو ذلك الرجل القصير الاصلع السمين، حين يرقص، هازاً كتفيه، بتناغم فريد مع الايقاع والغناء، رافعاً رأسه الاصلع نحو السماء، ومحركاً اياه يمنى ويسرى، وقد تدلت كرشه المتهدلة اسفل قميصه القصير، وسط ضحكات وتصفيق رفاقه. كان لذلك الحفل المرتجل الصغير، عظيم الأثر في تلطيف ذلك الجو الملتهب، وادخال بعض السرور في نفسي، قبل ان يلوح القطار من البعد، مقبلاً يتهادى ببطءٍ ودلال، يسبقه صوت بوقه المميز، واحتكاك عجلاته على القضبان، محاكياً النواح والانين. ومع اقترابه رويداً رويداً من المحطة، كفّ الجميع عن ما كانوا فيه من صخب وضجيج، وانتصبوا مشرئبين بأعناقهم ناحيته و متهيئين لركوبه، وما أن توقف وانفتح بابه على مصراعيه حتى هرولنا نحوه واندفعنا في جوفه ليبتلعنا جميعاً ويستأنف مسيره من جديد في اتجاه الغرب. وعند دخولنا لفحنا هواء التكييف البارد ورائحة الخمر المنبعثة من انفاس بعض الركاب، وكان معظمهم من المتشردين القاصدين لداون تاون فينكس. كانت معظم المقاعد مكتظة، فظللت واقفاً لبعض الوقت، محاولاً الاحتفاظ بتوازني والقطار يتلوى مسرعاً في عدوه الحميم بين المحطات، ولاحظت أن أحد الركاب كان يتفرسني بنظراته المتلاحقة المباشرة، دونما توقف. تلاقت نظراتنا لبضع ثوان، فأشحتُ عنه بناظري عسى أن يفعل نفس الشيء، ثم عاودت النظر اليه ثانية، غير أنه لم يحول نظره عني البتة، مما اقلقني بعض الشيء. كان على اعتاب السبعين من العمر تقريباً، طويل القامة، منحني الظهر قليلاً، مستدير الوجه، ذو لحية بيضاء متسخة، وكان يرتدي اثمالاً باليةً تتكون من قميص ابيض، فقد لونه بعد ان تشرب بالعرق والغبار ومن فوق القميص معطف مهتريء رغم حرارة الجو، اما البنطال فقد كان اسود قصيراً، وكان ينتعل حذاءً جلدياً سميكاً يعلوه الغبار والاهمال. لم تكن نظراته شريرة، بل كانت شيئاً من التفكر العميق والتذكر المتواصل. تفحصته جيداً هذه المرة واخترقت نظراتي المتواصلة كل تفاصيل وجهه، وغصت في اعماق ذاكرتي لاكتشف أن هذا الوجه مألوف لدي، نعم مألوف لدي، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، واقوى الظن انه طبيبي الخاص منذ بضع سنين؛ طبيبي الذي كان يحمل نفس ملامح وجه الروائي الامريكي المشهور، آرنست همنقواي، صاحب رواية لمن تقرع الأجراس، والشيخ والبحر، ووداعاً للسلاح. فقبل سنين مضت كان يحمل نفس ملامح همنقواي، أما الآن، فقد كادت التجاعيد أن تطمسها، علاوةً على وضعه المزري وتحوله الى عالم التشرد والضياع، بعد أن كان شعلةً من الحيوية والنشاط، وملء السمع والبصر في ذلك المستوصف. في تلك اللحظات توسلت الى ذاكرتي ورجوتها بشدة والحاح أن تكذب حدسي، وأن لا يكون هو نفسه طبيبي الذي أعرفه، لأنه لا يستحق كل هذا الضنى والعذاب والتردي، فكم كان الرجل عطوفاً بي ورفيقاً، لا يألو جهداً في رفدي ببعض النصائح والارشادات الطبية المهمة، متى ما التقيته، وأكثر ما كان يفرحه ويثلج صدره ويجعله فخوراً بي، هو عدم تعاطيَّ للكحول والدخان في حياتي، وكان يرى في ذلك واحدةً من الحالات النادرة من بين مرضاه، ولكم كان يشجعني على التمسك بهذا المبدأ العظيم، مهما تبدلت الظروف والاحوال. تمنيت الا يكون الشخص الماثل أمامي هذا هو ذاك الدكتور الانسان، الذي ترك في نفسي انطباعاً جميلاً، من الصعوبة بمكان أن يبارح مخيلتي وذاكرتي. ما زالت نظراته مصوبة نحوي. اما هذه المرة، فقد بدا لي كأنه قد قرأ ما يعتمل بدواخلي وأفكاري، فتقدم نحوي بحماس، ماداً اليّ يده، تسبقه انفاسه التي طغت عليها رائحة الخمر والسجائر، قائلاً: لا شك أنك "ماليك"، ويقصد مالك، فأجبته بحماس: نعم، ولا شك أنك دكتور جي، أجابني بنعم، وأردفها قائلاً: سعيد بلقياك، ثم سحب يده، مسرعاً بالنزول في محطة سنتر فنكس، ليذوب في وسط الزحام كفص ملح في ماء !!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة