هناك تمييز بسيط بين التهرب الضريبي والتجنب الضريبي، فالتهرب الضريبي هو الامتناع عن دفع الضرائب المستحقة للدولة بما يخالف القانون، ويعتبر التهرب جريمة يعاقب عليها القانون في أغلب الدول، أما التجنب فهو استخدام أدوات القانون للحيلولة دون دفع مبلغ الضريبة للدولة، فعلى سبيل المثال، إذا كانت الضريبة تفرض تصاعدياً بحسب الأرباح، فيمكن للشخص عدم الوصول إلى نسبة معينة من الأرباح حتى لا يكون ملتزماً بالضريبة وينشئ عدة أعمال أخرى صغيرة، وبعض الدول أيضاً تعفي من الضريبة بعض دور العبادة من بعض الرسوم المالية وكذلك الجمعيات الخيرية، فيستغل البعض ذلك في بناء دار للعبادة في مسكنه، أو يقوم بانشاء جمعية خيرية ويتبرع بأغلب أمواله لها، وهكذا يستفيد البعض من ثغرات القانون لتجنب دفع الضرائب أو الرسوم. وهذا التجنب لا ينحصر في الرسوم والضرائب والجمارك، بل في كل تصرفاتنا القانونية والتزاماتنا تجاه الدولة. لذلك فالشركات الكبرى تقوم بتعيين مستشارين من كبار القانونيين الذين لديهم خبرات طويلة في مجال ما، فهناك خبراء في قوانين الضرائب وخبراء في قوانين الجمارك وخبراء في قوانين البنوك وخبراء في قوانين الأراضي، وخبراء في قوانين التعاقدات الحكومية؛ فخلافاً للشركات الصغيرة التي تقوم بتعيين مستشارين لحل مشكلاتها وأزماتها القانونية بعد أن تحدث، فالشركات الكبرى تقوم بتعيين هؤلاء الخبراء ليستفيدوا من ثغرات القانون لاستخدامها مباشرة، لذلك فالمستشار يمكن أن لا يقل راتبه عن مائة ألف دولار في الشهر لأنه لا يدافع عن الشركة وإنما يوجهها قانونياً لزيادة أرباحها باستمرار عبر الاستفادة من ثغرات القانون. إن المعرفة الشاملة التي تنتج عن الخبرة الطويلة لا تخدم فقط الأعمال المشروعة للمؤسسات الكبرى بل تخدم كذلك الأعمال غير المشروعة، إن موظف بائس في أي مصلحة حكومية يمكنه أن يعرقل أي مصلحة لمستفيد، وفي المقابل يستطيع أن يستخدم خبرته الطويلة في إيجادثغرات لتمرير أعمال غير مشروعة في صورة أعمال مشروعة بتغيير حرف أو كلمة أو إسم في طلب أو مستند. يمكن تغيير جملة (لحم طازج) إلى كلمة (لحم كلاب طازج) ليتم السماح بدخول هذا اللحم الفاسد إلى حدود الدولة وبيعه بعد ذلك للبشر. تقوم شركات تقليد الملابس والأحذية بتغيير حرف أو دائرة لماركة عالمية لتتجاوز المشاكل القانونية المتعلقة بالعلامة التجارية.. وهكذا..، في العقود يمكن لحرف (أو) بدلاً عن (و) أن يقلب المعادلة في الالتزامات التعاقدية، وقد يثير جدلاً حول تفسير بند من بنود العقد، ولذلك فالخبرة الطويلة تلعب دوراً في اكتشاف ثغرات العقد والالتفاف حوله حتى لو كان من كتبه هو خصمك. لذلك فالخبرة القانونية تلعب دوراً كبيراً ليس في صياغة العقد وإنما في تدقيقه بعد ذلك، ومن ثم تجنب الالتزامات وليس انتهاك أحكام العقد. إن التجنب القانوني يستغرق كل شيء حتى مستوى الدورة المستندية. إن من لديهم فهم واسع للدورة المستندية يمكنهم الحصول على مرتب لا يقل عن مائة ألف دولار، فتسجيل العمليات بالمستندات مهم من ناحية الاعتراف القانوني. وهذا ما يربط الخبرة المالية بالخبرة القانونية، ومن يمتلك هذا الربط فقد نال حظاً عظيماً وراتباً عالياً. مشكلة تقسيم العمل والتخصص الدقيق: يعتبر تقسيم العمل أحد ركائز الليبرالية كما جاء في كتاب ثروة الأمم لآدم إسميث، فهو يزيد من سرعة انجاز العمل، ويقلص من المدة الزمنية المطلوبة لاكتساب الخبرة، فلو تخيلنا مصنع دبابيس، يتم فيه تقسيم صناعة الدبوس الواحد إلى أربعة أعمال: (تقطيع، برد، لحام، تدبيب، تلميع) وكان العامل الواحد مختصاً فقط بعمل واحد كالتقطيع، فإنه يستطيع اكتساب خبرة التقطيع خلال أسبوع واحد فقط خلافاً لما لو كان مطلوباً من العامل القيام بالتقطيع والتلميع والتدبيب..الخ. غير أن لكل شيء سلبيات كما له إيجابيات، فالعامل الذي لديه خبرة في جزء صغير سيظل طوال حياته جاهلاً بطريقة عمل الأجزاء الأخرى. تنعكس هذه الإشكالية على خبرات الموظفين الذين سينتهي بهم المطاف إلى جهل شامل بالمنظومة التي كانوا يعملون فيها إلا تلك الجزئية الصغيرة التي أصبحوا خبراء فيها، ولأن المؤسسات الكبرى تحاول تجنب الوقوع تحت طائلة القانون وفوق ذلك الاستفادة من ثغرات القانون، فإنها تحاول القيام بعمليات ربط مركزية (فنية متنوعة، وقانونية متنوعة). وهذا الأمر يستغرق كل الأنشطة في المؤسسات التي ترغب في التطور، فعلى سبيل المثال، لتقوم وكالة الفضاء الأمريكية ناسا برحلة إلى المريخ، فهي ستحتاج إلى مهندسيين تكنولوجيين ومهندسين ميكانيكيين ومهندسين كهربائيين ورياضيبن بالإضافة إلى جيولوجيين، وفلكيين، بل وقانونيين، بل وعلماء نفس وأطباء لفحص الرجال رواد الفضاء من ناحية طيبة، فوق ذلك ستحتاج ناسا إلى علماء تغذية، وعلماء نباتات وعلماء في الأقمشة والمعالجات البلاستيكية،...الخ. كل هذا يتم عبر تنسيق مركزي بين الخبرات. ويحدث هذا عند صناعة الأفلام، فإنتاح فيلم واحد يحتاج -بالإضافة إلى الممثلين والمخرجين والمصورين والمنتجين- يحتاج إلى مصممي أزياء ومصممي ديكور، وخبراء في الحلاقة وتصفيف الشعر، وخبراء في الإضاءة، وتكنولوجيين، ومهندسي حركات خطرة، وخبراء معارك، وخبراء تاريخيين، وجغرافيين ورسامين..الخ. فلقد انتهى عهد العالِم الموسوعي، ولذلك بدأت العديد من الجامعات في التحول إلى الأبحاث متعددة التخصصات لعدة باحثين مشتركين ليكون الانتاج العلمي أكثر فائدة. لا يختلف ما سبق عن مشكلة التجنب القانوني، فالتجنب القانوني لا يمكن أن يتم من خبير قانوني واحد، فلكل قانوني تخصصه، فهناك خبراء في القوانين الضريبية، وخبراء في القوانين المالية، وخبراء في القانون الجنائي، وخبراء في قانون العمل، وخبراء في القانون التجاري، وخبراء في قوانين المشتريات الحكومية، وخبراء في قوانين الخدمة المدنية...الخ. وكل قانون يمكن أن يؤثر في رؤيتنا لقانون آخر، وبالتالي مدى إمكانية الاستفادة منه في استغلال الثغرات القانونية، وهنا فالمسألة تحتاج إلى ثقافة قانونية واسعة؛ ليس لحل المشكلة بشكل مباشر ولكن للقيام بعملية تنسيق بين الخبرات القانونية المتعددة، أي أن المؤسسة تحتاج لمثقف قانوني يمتلك القدرة على الاستفادة من خبرات زملائه القانونيين الآخرين..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة