كانت قصة عجيبة؛ شهدتها بنفسي وليس نقلاً عن أحد، وهي قصة قصيرة، بطلها كلبي السيد "لاسي". وقد أسميته بهذا الاسم في طفولتي تقليداً لاسم كلب كان بطل مسلسل أو فيلم أمريكي فلا أتذكر على وجه الدقة. ولكي ندلف مباشرة إلى القصة العجيبة والبسيطة جداً، يجب أن أبتدرها بالحديث عن منهج تربيتنا لهذا الكلب، فقد ربيناه على عدم التغوط داخل المنزل، وعدم الدخول إلى السكن الداخلي، وعدم الأكل من أي طعام لم يوضع له؛ والأهم عدم أخذ أي قطعة لحم لم توضع أمامه. وبما أن القانون معرفة لم أتمكن من الإفلات منها، فدعني أخلط بينه وبين تربيتي للكلب، ففي القانون هناك ما يسمى بقانون الكلب، وهو الذي يختلف عن مبدأ المشروعية (ويطلق عليه بعض الفقهاء مبدأ الشرعية). ومفاد مبدأ المشروعية هو أنه (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص نافذ قبل ارتكاب الفعل الإجرامي)؛ فإذا لم يكن هناك نص يعاقب على تدخين السجائر فلا يجوز معاقبة شخص على تدخين السجائر، حتى لو تم سن قانون بعد ذلك على تجريم تدخين السجائر فلا يجوز تطبيقه على من قام بتدخين السجائر قبل ذلك. فالإنسان تخبره بما يجب أن يمتنع عنه أولاً، ثم بعد ذلك تقوم بمعاقبته إذا لم يمتنع. أما قانون الكلب فعكس ذلك تماماً، إذ أن الكلب إذا ارتكب حماقة ما فعلى سيده معاقبته وهنا سيتعلم الكلب أن سلوكه خاطئ. وهكذا يمكنكم يا سادة فهم كيف كنا نربي السيد "لاسي" دون حاجة إلى مزيد من الشرح. في يوم من الأيام وفي عيد الأضحى على وجه التحديد سرق السيد الموقر "لاسي" قطعة لحم وفرَّ هارباً، في الواقع لم يسرقها بل خطفها (فمن ناحية قانونية لا يعد الخطف مماثلاً للسرقة). خطفها وفر لا يلوي على شيء، وكان هذا السلوك (المعادي لمجتمعنا) مفاجأة كبرى لنا، فلاحقته حتى انعطف إلى الحديقة ثم اختفى وراء شجرة. هرولت متتبعاً إياه لأجده جالساً أمام كلبة أخرى وقد وضع أمامها اللحم دون أن يشاركها الأكل. وبنظرة خاطفة تبين لي أنها حبلى. فأسقط في يدي ولم أدر ماذا عليَّ أن أفعل؛ ذلك أنني -ولأول مرة- أتعرف على العاطفة الحيوانية بمثل هذا القرب. ويمكننا تتبع العاطفة الحيوانية في أغلب الحيوانات؛ فالدلافين مشهورة بإنقاذها للغرقى، ويلاحظ كذلك أن فرس النهر غالباً ما يتدخل لإنقاذ الحيوانات من أفكاك التماسيح إذ يدخل في معركة حامية الوطيس معها حتى تفلت الضحية من بين أسنانها القوية. ولذلك ظل السؤال يلازمني حول هذه الاستجابات العصبية المتجاوزة للغريزة الطبيعية، إذ أننا نشاهد تضحيات الحيوانات من أجل حيوانات أخرى، وهذا شيء عجاب. فهنا عاطفة الإيثار، وعاطفة الميل إلى العدل، تمتزج بوعي ما تجاه الآخر المختلف دون مبرر عقلي، خلافاً للفلسفات البشرية التي إما أنها تنسب هذه القيم إلى نزعات ذاتية كما فعل نيتشه، أو تأصيل ميتافيزيقي وبالتالي تنفيها عن الإنسان نفياً شاملاً أو جزئياً. أو تلك التي تربطها بنظرية التطور كما فعل أغلب العلماء الأوروبيين في القرنين الثامن والتاسع عشر، مما أسفر عن العنصرية تجاه الأجناس التي ينظر إليها باعتبارها أقل تطوراً. إن الدهشة لا تنهض هنا بسبب الاستجابات النفسية فقط ولكن لأن هذه الاستجابات تشيء بدرجة عالية من الوعي بقيمة الحياة والموت، الميلاد، الزوجية، التضحية، الأبوة والبنوة، وأن الضرورات تبيح المحظورات كما قيَّم كلبي فعله على هذا الأساس، فانتهك القوانين المنظمة لسلوكه داخل الأسرة البشرية التي تحميه. لكن ما المغزى من هذا الموضوع؟ في الواقع هذا الموضوع ليس عادياً أو بسيطاً كما يبدو للوهلة الأولى بل هو مرتبط ارتباط كبير بتاريخ الاستعلاء البشري كما أسلفنا من قبل، وفي نظريات المعرفة، وفي الفلسفات التي تربط بين الفطرة والمعتقدات، وفي فلسفة النباتيين وحماة حقوق الحيوان، وفي علاقاتنا كبشر بالكائنات الحية الأخرى، وبحماة البيئة،...الخ. ولذلك فإن التوسع فيه بشكل يتجاوز الأدبية إلى العلمية، قد يفضي إلى نتائج تغير مجرى مستقبلنا على الأرض، كما سيحدث تأثيراً ناقداً وناقضاً للفلسفات القديمة، وخاصة الجدل المزمن حول الأخلاق (مدى وجودها وجوهرها ونسبيتها).
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة