في زقاق ضيق متفرع من شارع مكتظ بالمدينة، يقع مقهى "تكه"، ملاذٌ غريب الأطوار يملكه رجلٌ طموحٌ بجنون، همه الوحيد جمع المال. لم يترك هذا الرجل حبة أو نباتًا من ما تنبته الأرض إلا وحوله إلى مشروب، فباتت قائمة المقهى تتوسع شهريًا بشكلٍ جنوني، تضم أسماءً غريبة لمشروباتٍ أغرب، من "شاي بذور الخس" إلى "عصير جذور الهندباء المحمصة". أما الجرسون، شابٌ مرحٌ يهوى الغناء، فكان ينادي على الطلبات بأغانٍ من حقبةٍ زمنيةٍ معينة، يحمل في يده صحيفة أو مجلة قديمة، يتوقف دائمًا عند زاوية الأدباء، حيث تدور نقاشاتٌ حادة تحول جو المقهى البارد إلى حرارة، عبر تقاطعات الآراء ودخان السجائر وبخار أكواب القهوة بأنواعها التي لا تنقطع من التكرار. هذا التأخير كان يسبب له توبيخًا مستمرًا من صاحب المقهى، الذي لا يرى في تلك النقاشات سوى مضيعة للوقت. في تلك الزاوية، كان يجلس أديبٌ مرهف الحس، أذنه كما الخفاش تلتقط كل ما يدور في المقهى. لم يكن مخبرًا أو محللًا استراتيجيًا، بل كان يستجدي قصصه بواقعية رزق اليوم. ربما تمضي شهورًا لا يجد سطرًا أو رأس فكرة، فقد ضرب التكرار خيمته في هذا المقهى، وأصبح كل يومٍ نسخة طبق الأصل عن سابقه. ذات مساء، بينما كان الأديب جالسًا كعادته، يستمع إلى نقاشٍ حاد حول مفهوم "الواقعية في الأدب"، لاحظ شيئًا مختلفًا. لم يكن النقاش هذه المرة مجرد جدالٍ عقيم، بل كان يحمل شرارة فكرة. أحد الأدباء تحدث عن أهمية "الصدق في التعبير عن الواقع"، وأن "التكرار جزءٌ لا يتجزأ من الحياة". هنا، لمعت في ذهن الأديب فكرة. أدرك أن التكرار ليس بالضرورة جمودًا، بل هو أيضًا جزء من الواقع، جزء من روتين الحياة اليومية، جزء من شخصيات الناس. قرر أن يكتب عن هذا التكرار، عن هذا الروتين، عن هذا المقهى، عن هؤلاء الأشخاص. بدأ الأديب يكتب، يصف المقهى، يصف رواده، يصف نقاشاتهم، يصف حتى قائمة المشروبات الغريبة. كتب عن صاحب المقهى، عن طمعه الذي لا ينتهي، وعن الجرسون، عن مرحه وتأخيره. كتب عن نفسه، عن انتظاره للإلهام، وعن يأسه أحيانًا. بعد أشهر من العمل الدؤوب، انتهى الأديب من كتابة روايته. لم تكن رواية عظيمة، لكنها كانت صادقة، كانت تعكس واقع المقهى بكل تفاصيله الصغيرة. عرضها على بعض أصدقائه الأدباء، الذين أثنوا عليها وشجعوه على نشرها. نشر الأديب روايته في دار نشر صغيرة، ولم تحقق الرواية شهرة واسعة، لكنها لاقت استحسانًا من بعض النقاد والقراء. بدأت بعض الصحف والمجلات الأدبية تتحدث عنها، وبدأ بعض الزبائن في المقهى يتعرفون على الأديب ويسألونه عن روايته. بدأ صاحب المقهى يلاحظ أن زاوية الأدباء أصبحت تجذب زبائن جدد، مهتمين بالأدب والثقافة. قرر تخصيص مساحة أكبر لهم، وتوفير كتب وأقلام. أما الجرسون، فقد توقف عن الغناء بصوت عالٍ، لكنه ظل يختار أغاني هادئة تتناسب مع جو المقهى. الأديب، لم يصبح مشهورًا، لكنه وجد متعة في الكتابة، وأدرك أن قيمة الإبداع ليست بالشهرة، بل بالرحلة نفسها. استمر في الكتابة، واستمر في الجلوس في المقهى، يستمع إلى نقاشات الأدباء، ويستلهم من واقع الحياة اليومية. أصبح المقهى جزءًا من حياته، وهو بدوره أصبح جزءًا من تاريخ المقهى. وهكذا استمرت الحياة في مقهى "تكه"، مزيجًا من التكرار والتجديد، من الواقع والخيال..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة