في هذه الحرب، التفّت مجموعة من الداعمين لعودة النظام البائد، ومعهم بعض الجهويين، حول مشروع إعلامي كبير لا يقر ولا يعترف بالدور العدائي الخطير، الذي ظلت تلعبه مصر في السودان طيلة عمر الدولة المولودة بعد إنزال علمي الحكم الثنائي، هذه المجموعة يجمعها وجدان مشترك لا يرى في مصر دولة جارة نديدة مثل الجارات الأخريات – اثيوبيا – تشاد – ارتريا – ليبيا، بل ينظر إليها كحامي حمى وملجأ من التمدد (الغرب أفريقي) الهادف (لطمس هوية السودان النيلي)، ونرى هذه الأطروحة الواضحة المعالم في رسائل عرّابي الدويلة المزعومة، المسماة بدولة النهر والبحر، فإذا ألقينا بالنظرة الفاحصة على سيرورة السودان كأنظمة حكم، ورجعنا للوراء ثم رصدنا مسلك الساسة والحكّام، إبّان تعاقب الحكومات (الوطنية) بعد (الاستقلال)، نرى الجهد المصري الاستعماري الكبير في جميع الأصعدة – الأمنية والاقتصادية والثقافية والإعلامية، الخادم للأجندة المصرية بكل شراسة، وما نحصده اليوم من قصف جوي مدعوم مصرياً للبنية التحتية، وللمجتمعات السودانية، لهو أكبر شاهد على أن مصر لا يمكنها التنازل عن دورها كمستعمر، طالما أنها استطاعت أن تدجن مجتمعاً كاملاً ناهيك عن الحكّام والساسة، والنخبة السودانية السياسية منها والعسكرية المستلبة للوجدان المصري، هي الحافز الرئيس لجميع رؤساء مصر، ابتداءً من ناصر وختاماً بالسيسي، الحافز المشجع (أم الدنيا) على استمراء دوس السودانيين شعباً وحكومات، فقد عمل فراعنة شمال الوادي منذ التركية على صناعة مجتمع مستنسخ من مجتمعهم، فتمكنوا من رقاب السودانيين اقتصادياً وسياسياً، وجعلوهم تابعين لهم مثل الببغاوات، يقلدونهم في اللهجة ولغة الجسد، لذلك لن يتخلى خدم منازلهم هؤلاء عن الانصياع والتسليم، إلّا بهزيمة هؤلاء الخدم من قبل ثورة أحرار السودان، المشرئبين نحو السؤدد والكرامة والعيش العزيز. وفي مقابل المجتمع السوداني المدجّن مصرياً، هنالك مجتمعات أخرى لم تخضع للعصا المصرية، لأسباب كثيرة، أهمها تمسك هذه الكيانات السكانية ببداوتها وعزة نفسها، لاعتمادها على مواردها الطبيعية، وعدم انكسارها أمام الابتزاز بالصورة الحضارية الزائفة لمصر، التي يستعلي بها رموز هذه الجارة السيئة على السودانيين، فاختلاف البيئات القادم منها هؤلاء السودانيون المختلفون، لا تروق للمصري المستعمر القديم، الضامن لولاء الشريحة المجتمعية المنهزمة أمامه على الدوام، والمسلّمة أمرها لجنابه والمستسلمة له بالكامل، ومن يريد أن يرى الصورة المكبرة للوجدان الجمعي للمجتمعات السودانية الرافضة للهيمنة فطرياً، وعدم انحناءها للعزو الاجتماعي والثقافي والعسكري المصري، ينظر لردة الفعل الإيجابية القوية للخطاب التاريخي الذي ألقاه قائد التحرير قبل أيام، والذي أعلن فيه حظر تصدير السلع التجارية لمصر، حين هلل الأحرار لذلك القرار الذي جسّد المعنى الفعلي للسيادة الوطنية، التي تلاعب بها قائد كتائب مليشيات الاخوان المسلمين، فكل الشعوب الحرة تأبى التبعية وتعتز بالذاتية وتعلي من شأن العزّة الوطنية وتعزز الأنفة القومية، إلّا الذين تم ترويضهم عبر الحقب الماضية وأعيد صياغة نزعاتهم القومية، لكي تتماشى مع أهواء قوم لا يشبهونهم، إنّ ما يجري في السودان هو عودة للدولة الوطنية الحرة المستقلة، وفراق بائن بينها وبين الدولة المستعمرة التابعة والخاضعة، التي يعمل حماتها على اشعال الحروب الداخلية لتأكيد التبعية، فما يحدث اليوم ليس حرباً عبثية كما يردد الصفويون المترفون الحالمون، بل هي حرب حتمية كان لابد لها أن تندلع، لتفرز الدم والفرث عن اللبن الصافي اللذيذ، ومهما كثرت التفسيرات والتحليلات لما يجري على أرض السودان، إلّا أنه هنالك حقيقة واحدة راسخة لا يمكن أن يبدلها الزمان، وهي أن الشعوب الحرة وإن تكالبت عليها صروف المنايا، لن تظل أبد الدهر تحت وطأة القهر. إنّ أمن مصر من أمن السودان – الأمنان: الغذائي والمائي، فهذه حقيقة، ولكن ليس من منظور وتفسير الإخوة في شمال الوادي، ذلك التفسير الذي يعتمد على النظر للكوب المملوء من جانب واحد، ويستمرأ تلقين جنوب الوادي المسلسل المصري المبثوث على (التلفزيون الوطني) يومياً عند الثامنة مساء، دون أن يتاح المسرح القاهري للمسرحي السوداني الفاضل سعيد، لكي يقدم الطرح الدرامي الآخر القادم من الجنوب، ومن سخريات الأقدار أن ذات الطريقة الاستعلائية في تعاطي الجارة الشمالية مع جارتها الجنوبية، مارستها الجارة الجنوبية (السودان الشمالي) على الجنوب والغرب والشرق السوداني، وكأنما تلك ترجمة حرفية لتمظهرات سيكلوجية المقهور، الذي وفي سبيل نفث ما يكتنف روحه من إذلال، لابد أن يجد (حيطة قصيرة) يتخلص على جدرانها من ثقل عناء القهر، ومع مرارات الحرب الدائرة الآن هنالك قادم أجمل وأكيد، وهو أن أولادنا وأحفادنا لن يعيشوا تحت جلابيبنا السوداء، المعروفة باسم جلابيب العم عثمان البواب والسائق محمد صالح، والجرسون المربوط من وسطه بقطعة قماش تؤكد ولاءه للباشا، فإلى حين خروج الصامتين عن صمتهم في إدانة العدوان المصري على السودان، لن يتقاعس الأحرار عن المضي قدماً نحو التحرير الكامل وإنجاز الاستقلال التام عن مصر، التي أتت بوزير (لخارجيتنا) مصري عتيق، بل ومن المصريين الأصلاء، فلقد استحق الأحرار الذين يقاتلون بجدارة على أرض الميدان، شرف الذود عن حوض الوطن من الغزو الخارجي والعدوان الصريح.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة