الكمساري يُنادي علي الركاب من موقف المؤسسة بحري التي شهدت شوارعها غضبة الهبباي من قبل الكنداكات والشفاتة فيما مضي- لا محالة سيرجعون إليها غصبا عن هدير المدافع- ، الشهداء الشهداء...شعبي ام درمان...جامعة الأحفاد..جامعة ام درمان الأسلامية. ينبعث صوت المغني العذب الحلو: " لما الليل يروق يحلي...تجي النسمة وتضم شتلة...ضفيرة الليل نلاقيها...شايلة عيون طفلة." وتنتهي الأغنية مرددا المغني لو جارت عليك أيام تعال لعيونا بتشيلك! جلست فتاة في مقتبل العمر تبدو عليها النضارة ومازال جُريال الشباب علي وجوهها مُخضرا كما جروف النيل مع الموجة الصباحية. بالقرب منها جلس شاب في عمرها، تجاذبا أطراف الحديث عن حال البلد الذي لا يسر العدو ولا الصديق وكانت عيناها اللامعتين ترنو إلي أفق بعيد متجاوزا الحيز الجغرافي الضيق. قطع الكمساري حديثهما الذي كان يبدو وكأنهما يهمسان إلي بعضهما البعض ليأخذ ثمن التذكرة من المؤسسة إلي موقف الشهداء. كان مصرا علي دفع ثمن التذكرة التي لا يتجاوز الثلاثمائة جنيها لا غير. قالت له سأدفع ثمن التذكرة : " لا والله ما ممكن" قال للكمُساري : " ما تشيل منها!". قال لها : " ما سمعتني مصطفي ود سيد أحمد تغني.. يا ود ضكران يا بت دغرية." توقفت الحافلة عند محطة المظلات ونزل البعض من الركاب مسرعين إلي اشغالهم التي لا تنتهي. صعد إلي ظهر الحافلة التي خلت بعض كراسيها التي أكل عليها الدهر وشرب وخصوصا أنها من ماركة كوستر العتيقة. تكدست الحافلة بالركاب الجُدد مرة أخري لأن الوقت كان صباحيا والسماء ملبدة بالغيوم ، والجو خريفيا، والشمس تغطيها السحب والغيوم السوداء ولا تود الخروج اليوم متكاسلة كأنها عروسة في شهرها الأول! صعدت أمراة كبيرة في العمر بشلوخ ظاهرة للعيان ولكنها لم تجد معقدا خاليا، نهض شابا في مقتبل العمر وتنازل لها عن كرسيه قائلا: " والله يا أمي لازم تعقدي." شكرته بدعوات الأمهات- االتي لا أظنها مكتوب عليها تاريخ الصلاحية- تشيلك يا ودي عافيتك، وربنا يوقف ليك أولاد الحلال أينما ذهبت. نزل جميع ركاب الحافلة الكوستر في موقف الشهداء الذي يومها كان يُعج بالبشر من مختلف السحنات من جميع أنحاء السودان ودول الجوار. صوت الباعة المتجولين يرددون بصوت طروب مليء بالشجن ينادون على بضاعتهم : " جايبنو بالطيارة وبايعنو بالخسارة، بعشرة بعشرة.. علينا جاي." تبادل الشاب مع الصبية التي كانت تجاوره في الحافلة أرقام التلفونات بعدما محت التكنولوجيا الجغرافيا علي امل ان يلتقيا في مقبل الأيام، أصر أن يعزمها علي تناول عصير المانجو من منقة شندي في وأحدة من الكافتيريات في موقف الشهداء. أثناء الجلوس سويا وهما يتجاذبان أطراف الحديث لاحظت انه يحمل في يده اليسرى كتاب يحمل عنوان اللامتتمي لكاتبه كولون ويلسون. كان عنوان الكتاب جاذبا ومدهشا في ان معا بالنسبة لها . قالت له بصوت حنون وانت ما منتمي لشنو؟ ضحك وكاد أن ينفجر من الضحك ولكن حينما أدرك انها احست بالحرج من عدم معرفتها بالكتاب ولا كاتبه الذي لم تسمع به من قبل ، قال لها حسنا ، حاول أن يرفع عنها الحرج قائلا لها أنا انتمي إلي عيناك الحلوين اللذيذتين، وانتمي إلي بائعي الخضار، وستات المدمس والتسالي، والكمسنجية الذين يدلون الغرباء علي هذه المدينة إلى وجهتهم الصحيحة. لحظتها احست برعشة تسري في جسدها الاهيف. لم يتركها في حالها حينما شعر بعلامات الاندهاش تعلُو وجهها الصبوح قائلا لها انا أود أن انتمي الي عيناك الحلوين لأنهم بالنسبة لي هم الوطن المُفتقد، نظرت إلى الأرض خجلا واشاحت بوجهها بعيدا عنه. حاول أن يكسر حاجز الصمت بفعل الخجل الذي انتابها قائلا هذا الكتاب يحكي قصة كبار الفلاسفة، و المؤلفين، والفنانين حيث يحكي ويلسون في كتابه ويقول عن هؤلاء اللامنتمون ويصفهم بأنهم أكثر الناس حساسية، إنهم يرون أكثر مما نرى، ويتملكهم الاحساس بالغربة في واقع مرير لا يتطابق مع رؤاهم، أو إنهم يردون بناء عالما مغايرا لهذا العالم الذي يتسم بالقبح، رويدا رويدا ينسحب هؤلاء الناس إلى عالمهم الخاص فينسحبون من هذا المجتمع إلى زواياهم الخاصة. قال لها بصوت متحشرج الآن اوضحت لكي، وبشكل مقتضب ما في هذا الكتاب من أفكار. احست بأنها تريد المزيد من هذا الكلام الذي لا تجده في قاعات الدرس ومناهجها التي تتسم بالجمود، والتكرار الممل من قبل الأساتذة الذين لا يصبرون علي المتعلمين، لكن كلمات الغزل كانت تسري في جسدها كالنار في الهشيم. نهضت واقفة وقالت له أنها في طريقها الي قاعة الدرس والمحاضرة الأولى التي اوشكت على البدء ، غاصت وسط زحمة العربات في طريقها إلى جامعة الخرطوم من موقف الشهداء. لأن الجو كان خريفيا كان مزاج الناس خريفيا أيضا، وكيف لا وسقف الطموح في هذا البلد في غاية البساطة والتواضع حيث الناس في بلدي، وهنا أتحدث عن غمار الناس الذين يحلمون بإرسال أبنائهم إلي مدراس حكومية ينعدم فيها حتي الطباشير، ويحلمون بشراء ربع كليو من اللحم البقري والخضار المفروش على الأرض، وحافلة تقلهم إلي المنزل الذي يقع في أطراف العاصمة لكنهم سعيدين بما اتاهم الله من نعمة الصحة والله ذو فضل عظيم! نادي الكمسنجي - في موقف الشهداء - على عواطف التى يدلعونها بعطوفي البخلي الجو لطوفي.. بأن تأتي إليه بالقهوة ولا تنسى البخور الحلو. قامت عواطف من بنبرها تحمل صنية القهوة التي وضعت عليها البخور الحلو مع بخور التيمان الذي أشاع السرور علي النفوس مع تلك الأجواء الماطرة. مدت إليه القهوة مع البخور بنوع من الدلال والغنج، والليونة، والتكسر الذي يُعد جزءا لا يتجزأ من سحر هذه المهنة التي تتطلب الظرافة والملاحة. شكرها قائلا: " شكرا يا بنت القبائل ومن يد ما عدمناها!" ضحكت ضحكة جعلت كل من كان بقربهم يلتفت إليهم ولكن كما يُقال في الثقافة السودانية بلدا ما بلدك أمشي فيها عريان! بدأت محطة الشهداء بالازدحام لان اليوم كان الأحد وهو اول يوم في الدوام الحكومي والقطاع الخاص. الكل كان مسرعا إلي مكان عمله علي الرغم من ضنك الحياة الذي كان تتويجا لحاصل جمع موارد الدولة من ذهب، و ثروات زراعية وحيوانة لا تدخل إلي خزينة بيت مال السودانيين، بل تذهب إلى مجموعة من الكارتيل الذي سيطر على جهاز الدولة بفوهة البندقية التي صارت عند مجموعات كثيرة اقل ما تُوصف به أنها دولة داخل دولة! في ذات صباح بهي صحيت المدنية على صوت الرصاص المنهمر من السماء وكأنه الحمم البركانية. طارت الحمائم التي لا تهدل حيث الخراب كما قال المتحدث الرسمي باسم الفقراء والمساكين محمد الحسن سالم حميد ، بل ذهب آكثر من ذلك ووضع مبضعه علي جرح الوطن لاعنا الحرب: درب مـن دم مـاب يـودي حرِب سُبّه حرب حرام تـشـيـل وتـشـيـل مـابِ تـدِّي عُـقـب آخــرتا إنهزام بطـانـة الـشـيـطان قـديمِة وبعد دا منو العرشو دام إذا الإنسان ما ليهُ قيمِة عـلي إيش خلَّفُو سام وحام مشاهد البشر الذين يعاركون الحياة بحلوها ومُرها، مناظر طلاب المدارس والروضة في الصباح الباكر وهم يقبلون على الحياة بضحكة علي وجوهم الملائكية، بائع اللبن الذي يأتي في الصباح، بكاسي الخضار والفواكه التي تجوب الأحياء، سائقو الشاحنات الكبيرة التي تسمي الزيد واي التي تصدر صوتا يطرب بعض محبي الشاحنات الكبيرة، هذا غير الذين يذهبون إلى الحقل في الصباح الباكر-فتاح يا عليم رزاق يا كريم- وفي الفجرية طالع و طالع بيزرع في المزارع، جميع هذه المناظر الحياتية والأسرية أراد لها دعاة فلترق منهم دماء أو ترق منا الدماء أو ترق كل الدماء ذاك النشيد القميء الذي كان يُبث من الراديو والتلفزيون "القومي" الذي يُدفع له من جيب دافع الضرائب السوداني. ليتهم عرفوا قدر تلك البلاد كما عرفها شاعرنا ابو ذر الغفاري الذي عاش غفاريا وقع الحافر علي الحافر كما عاش جده الكبير ابو ذر الغفاري ذالك الصحابي الجليل ، وقد تم إخفاء شاعرنا أبو ذر الغفاري السوداني مع سبق الاصرار والترصد ولم يظهر إلي الآن، بعد أن قال: أرضعتني هذا السمراء ومضا علمتنى كيف اضحك دافئاً للناس كيف أضئ فاكهتي وأحرق كل أنفاسي على حقل البنفسج لست قرباناً، ولكن جمرة ولظى
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة