في فجر السبت 21 سبتمبر 2024، فارقنا الكاتب السوداني الساخر الفاتح جبرا الذي تعرفونه، وعشتم كل كتاباته وهو المثقل بهموم الوطن حتى ساعات الرحيل الأخيرة. واليوم أرثيه وأكتب عنه زوجًا وأخًا وأبًا لي ولأبنائي. نعم، كان الفاتح ذلك الزوج المحب، العاشق للأسرة، وسندها.
رحل الفاتح وترك خلفه إرثًا من الأدب الذي طالما أضحك وألهم القراء، وأضاء كثيرًا من الجوانب التي كنا نجهلها في مجتمعنا السوداني الأصيل. ورغم أسلوبه المتفرد في الكتابة الساخرة، كانت روحه تفيض بمشاعر الحب الدافئة والحنان المتدفق. كان مميزًا في علاقته معنا، أنا وناجي ونشوى. فقد كنا ثلاثتنا لا نفارق بعضنا إلا عندما كان يمسك بالورقة والقلم وتتوارد خواطر الكتابة. وبلا شك كانت علاقتنا مميزة ومختلفة منذ البداية، ومليئة بالتفاصيل الصغيرة التي صاغت ملامح حبنا.
التقيت بالفاتح يوسف جبرا وأنا شابة في العشرين من عمري، طالبة في أكاديمية دراسات الكمبيوتر بأمدرمان. منذ لقائنا الأول تلاقت قلوبنا، رغم المعضلة التي يعلمها الجميع، وهي أنني قبطيّة مسيحية وهو مسلم. لكننا تجاوزناها بالحب والإصرار، ونجحنا في الارتباط ببعضنا.
جبرا كان صاحب روح مرحة، يعرف كيف يسعد من حوله، ولا يعرف الاستسلام لليأس. بل كان دائمًا يبحث عن الجانب المشرق في كل المواقف، مهما كانت صعوبتها أو قتامتها. هذه الروح هي التي أسرتني منذ لقائنا الأول. كانت ضحكاته ونكاته تلطف الأوقات الصعبة، وتضفي عليها رونقًا وبريقًا خاصًا. حين كانت الكتابة عن هموم الناس تأخذه بعيدًا في عوالم أخرى، كنت أعلم أن هناك جزءًا من قلبه المتعب دائمًا معي ومع ناجي ونشوى.
علاقته بالكتابة كانت قوية، لكنها لم تطغَ على حياتنا الشخصية. كان يحترم مشاعرنا ويدرك أهمية التوازن بين العمل والأسرة. كنا نتشارك في قراءة مقالاته قبل نشرها، وأحيانًا أكون أول من يقرأ نصوصه الساخرة، وكان دائمًا يتطلع إلى ردة فعلي. كانت تلك اللحظات تحمل دفء العلاقة بين كاتب وعاشقة. كنا نعيش في حوار دائم بين الأدب والحياة اليومية، وكل منا كان يلهم الآخر.
مع رحيله، لم أفقد فقط شريك حياتي، بل فقدت جزءًا من روحي. وحين ذهبنا إلى المستشفى في المرة الأخيرة، أمسك بيدي وقال لي بنص واضح وعينه تنظر في عيني: "المرة دي أنا ما بمرق منها." حينها انهمرت الدموع من عيني، لكني حاولت التماسك حتى لا يراني منهارة. ربّتت على يديه التي كانت تمسك بيدي وقلت: "إن شاء الله تأخذ العلاج ونرجع البيت زي كل مرة." لم تمضِ إلا دقائق حتى رأيته يحرك أصابع يده اليمنى على الفراش. سألته: "مالك يا الفاتح؟" فهَمْهَمَ قائلاً بصوت منهك وكلمات متقطعة: "بكتب في المقال..." وكانت تلك آخر كلماته. وكأنني كنت في حلم حالك...
رحل الفاتح، لكنه ترك لي إرثًا من الحب والذكريات، إرثًا لا يزول بالغياب ومحفورًا في كل خلية من جسدي. سأظل أعيش كلماته وضحكاته، وأستمد القوة من ذكرياتنا وحياتنا. سأظل أحمل في قلبي العلاقة التي جمعت بين الأدب والحب، والتي لن تزول أبدًا حتى نلتقي.
وأخيرًا، أشكر كل من واساني وناجي ونشوى في فقدنا الجلل، وكل من زارنا وشاركنا مراسم التشييع أو العزاء. أشكر المئات الذين لم يتوقف الهاتف عن استقبال اتصالاتهم، والذين كتبوا عنه، وكل جيراننا وأصدقائنا، وحتى الذين لا نعرفهم ولم يلتقوا بالفاتح لكنهم أحبوه واتصلوا بنا. أشكر الرسميين وزملاءه من أهل الكتابة والصحافة والإعلام، وكذلك أصدقاء وزملاء ابني ناجي بالجامعة وأسرهم. هؤلاء كانوا لنا إخوة من مصر وصداقات ممتدة لسنوات، لم تنقطع اتصالاتهم وزياراتهم لنا. شكرًا لكم جميعًا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة