(١) البادي للعيان ان مفاوضات جنيف، لم تحقق آمال شعب السودان في وقف العدائيات بين الطرفين المتحاربين ، وهذا أمر كان متوقعاً، نظرا لتغييب الجيش المختطف نفسه ورفضه الانخراط في تلك الفعالية. والتغييب والرفض كان متوقعاً، بسبب الهزائم الميدانية الواضحة ، التي تحتم استسلام الجيش المختطف وإقراره بالهزيمة فنياً، عبر قبول الفصل بين القوات والسماح للمليشيا المجرمة بالسيطرة على جميع الاماكن التي أحتلتها ، وتمكينها مستقبلا من رسملة سيطرتها سياسياً. فالحركة الإسلامية المختطفة للجيش تدرك تماما استحالة ايقاف الحرب بمعزل عن التداعيات السياسية لهذا الإيقاف ، ولهذا فاوضت لدخول المفاوضات على اساس سياسي لا اساس فني عسكري محض، واصرت على الاعتراف بحكومة انقلابها سليلة انقسام وحرب طرفي الانقلاب ، لتحقيق مركز متقدم في اي مفاوضات سياسية قادمة، على حساب القوى التسووية المدنية المنخرطة في مشروع الدولة المدنية اولا، والجنجويد ثانياً. فالقبول بوقف العدائيات وايقاف اطلاق النار، يعني الفشل في تحرير اي شبر لتحسين الموقف التفاوضي السياسي للجيش المختطف والحركة الإسلامية التي اختطفته، كما يعني يدا عليا لمليشيا الجنجويد المجرمة عند تكوين جيش جديد عبارة عن لملمة لما تبقى من جيش وحركات محاصصة جوبا مع المليشيا المجرمة المنتصرة عسكرياً. لذلك لم يكن مفاجئاً أن تخرج المفاوضات الناقصة بترتيبات لتسهيل توصيل المساعدات الإنسانية، وتعهدات من الجنجويد بضبط افراد المليشيا المجرمة ومنعهم من ارتكاب انتهاكات - او جرائم مروعة ان شئنا الدقة - في حق المدنيين، وهو تعهد سيروح " شمار في مرقة" ، لأن الإنتهاك وارتكاب الجرائم هو أساس عقيدة هذه المليشيا المجرمة القتالية، ولأن مجرد وجودها هو انتهاك لحق المدنيين في الحياة المدنية وتحطيم لفرص اقامة دولة سيادة حكم القانون. (٢) فالمتوقع هو أن تفشل المليشيا المجرمة في ضبط أفرادها ومنعهم من ارتكاب جرائم في حقوق المدنيين، مع الاستمرار في زعمها انها فعلت لجنتها لضبط الظواهر السالبة. كذلك المتوقع ان ترتكب المليشيا المجرمة مزيدا من الفظائع عند دخولها اي منطقة اخرى جديدة وفي المناطق التي تحتلها، مع استمرارها في رفض الخروج من منازل المواطنين والاستمرار في احتلالها . ايضا يتوقع ان توسع دائرة حربها وأن تحاول الاعتداء على مناطق جديدة ، على الارجح في المناطق القريبة من مركز حكومة بورتسودان لمحاصرتها والضغط عليها، واستباق المساعدات العسكرية المزعومة من المحور المعادي للغرب الاستعماري التي يروج لها إعلام الجيش المختطف، لمنعه من استعادة زمام المبادرة وتحرير اي منطقة من المناطق المحتلة. يضاف إلى ذلك ، توقع توسع هذه المليشيا المجرمة في تكوين لجان الادارة المدنية المزعومة في المناطق المحتلة، والتي لا يعدو دورها دور جهاز تنسيقي لا سلطة مدنية له ولا حول ولا قوة، مع عدم ترجيح قيام المليشيا المجرمة بتكوين حكومة كرد فعل لتكوين حكومة لسلطة الأمر الواقع في بورتسودان لترث الانقلاب الفاشل والهزيمة المروعة في الحرب. فإعلان حكومة تكنوقراط من قبل الحركة الإسلامية المختطفة للجيش، يأتي في اطار محاولة نيل اي اعتراف بأي شكل من المجتمع الدولي ، وقبول يؤسس لتواجد مستقبلي في الخارطة السياسية ونيل نصيب من السلطة عبر واجهات ، مع تخفيف الضغط على قيادة الجيش غير الشرعية وبالتبعية الحركة الإسلامية. وبالرغم من ضعف احتمال نجاح هذه المناورة، إلا أنها ضرورية لتغيير شكلي على الاقل، يسمح بإدارة المفاوضات بأفق جديد مستقبلاً، مع أمل عدم سقوط مزيد من المناطق وتقلص سلطة الأمر الواقع أكثر. وفي المقابل إعلان حكومة من قبل مليشيا الجنجويد المجرمة ، سيغير طبيعتها من قوات شبه عسكرية مقاتلة إلى سلطة سياسية ، مع كامل تبعات هذا التغيير الذي يستلزم اعترافا من المجتمع الدولي ويرتب مسئوليات في مواجهته، المليشيا المجرمة وكفلائها في غنى عنها. (٣) قد نشهد التزاما من الطرفين المتحاربين في بداية الأمر بتسهيل عبور المساعدات الإنسانية عبر الممرات التي اتفق على فتحها، ولكن استدامة ذلك أمر مشكوك فيه في غياب مراقبة دولية فاعلة. فالانتهاكات متوقعة من جانب افراد المليشيا المجرمة في اي وقت، والتلاعب والفساد أمور لا مناص منها في ظل سيطرة الحركة الاسلامية على المشهد وسلطة الأمر الواقع على الجيش المختطف. وسنشهد ايضا استمرار التضييق على المواطن وربما ازدياده في الفترة القادمة، خصوصا في حال اتساع دائرة الصراع لتحسين الموقف العسكري والتفاوضي السياسي مستقبلا - وهو أمر متوقع. فالمليشيا المجرمة سوف تواصل القتل خارج نطاق القانون والنهب والتشريد وطرد الناس من مناطقهم واعتقال الوطنيين بإتهام انهم استخبارات عسكرية وكيزان، وسلطة الحركة الاسلامية سوف تواصل اعتقال الوطنيين بتهم التعاون مع المليشيا ومحاكمتهم بالإعدام وحشرهم ضمن محاكمات بعض المتعاونين بالفعل، كما ستواصل اعتقال المدنيين المعارضين لها بواسطة الاستخبارات العسكرية، وتواصل التضييق ومصادرة هامش الحريات وتوزيع الاتهامات بالعمالة والخيانة لكل من ينادي بوقف الحرب . فالطرفان عازمان الان على الاستمرار في الحرب ، وخصوصا الجيش المختطف لتعويض خسائره وتحسين موقفه التفاوضي السياسي مستقبلاً، في حين ان المليشيا المجرمة بهجومها تستبق اي محاولة من هذا النوع، وتؤكد انتصارها في الميدان بمستوى يسمح لها بفرض ارادتها في اي معادلة سياسية قادمة، لتضمن الحفاظ على جميع مكاسبها وتهرب من المحاسبة. وهما - أي الطرفان- يعلمان ان جنيف كانت آخر فرصة للإدارة الأمريكية الحالية لفرض ارادتها المسماة ارادة المجتمع الدولي عليهما، لأنها اصبحت بطة عرجاء في ظل اقتراب الانتخابات الأمريكية، والجيش المختطف يأمل في تحول الأوضاع نسبيا بعد انتهاء تلك الانتخابات، ويراهن بثقله على دعم المعسكر المعادي للولايات المتحدة الأميركية. أما المليشيا المجرمة ، فتراهن على علاقة كفلائها الإقليميين الوثيقة بالإدارات الأمريكية سواء أكانت جمهورية او ديمقراطية، وعلى قدراتهم على التجسير مع المعسكر المعادي وخصوصا روسيا. وهذا بالطبع لا يعني ان المجتمع الدولي الواقع تحت النفوذ الأمريكي سيقف عاجزا تماما كما تتوهم سلطة الأمر الواقع، ولكنه حتما سيتحرك ببطء ولن يتخذ خطوات حاسمة في مواجهة الطرفين قريباً، خصوصا في الجانب العسكري المباشر. ولكن هذا لن يمنعه من مواصلة الضغط السياسي المباشر، عبر العزل والحصار الدبلوماسي، مع تنشيط الفاعلين اقليميا كالاتحاد الأفريقي ومنظمة الايقاد والدول الفاعلة والراعية لمفاوضات جنيف، عبر استغلال الجسم الجديد الذي تم تكوينه في جنيف. (٤) والصورة أعلاه، تعني ان التعويل على المجتمع الدولي لمعالجة ازمة ناتجة عن معادلة سياسية داخلية بالاساس، هو رهان خاسر حتماً. لأن المجتمع الدولي يعمل من اجل مصالح الدول النافذة فيه ، والتي تتحرك وفقا لظروفها وشروط معادلاتها السياسية الداخلية، مع الأخذ في الاعتبار تعقيدات السياسة الدولية وتقاطع مصالح الدول وصراعها حول النفوذ والموارد. فوق ذلك التدخل الدولي غير المحايد، يسعى دائما لفرض معادلة سياسية داخلية ، لا تراعي حاجة الداخل للتغيير، بل تسعى لمعالجة هندسية ميكانيكية تتجاهل حيوية المجتمعات وفاعلية صراعها الداخلي، وتسقط القوى التي ترفض الانخراط في مشروعها من حساباتها. لذلك يبقى الداخل هو الاساس وهو الحاسم في ايقاف الحرب وفرض المعادلة السياسية القادمة. والمطلوب هو عدم التعويل على الحلول الخارجية وانتظار المجتمع الدولي لاجتراحها، والرهان على الحل الداخلي الذي يفرضه شعبنا القادر علي الطرفين المتحاربين. وهو حل يبدأ بالرفض القاطع لاستمرار الحرب وعزل طرفيها وعدم الانخراط فيها بدعم ايا منهما بأي صورة من الصور، وتوحيد القوى الرافضة للحرب وتنظيمها على اساس اهداف الثورة والإصرار على عودة العسكر للثكنات وحل الجنجويد وجميع المليشيات، مع محاسبة الجميع على اشعال الحرب وتداعياتها وانتهاكاتها وجرائمها، على ان يكون هذا التنظيم سريا في الداخل وعلني خارج البلاد، وأن يبدأ بتوفير مقومات الصمود بتكوين اجسام في الخارج تتعاون مع الداخل لتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطن حتى يتمكن من الصمود، مع دعم جهود المجتمع الدولي الانسانية وما تمخضت عنه مفاوضات جنيف بشأنها، والتأكيد على رفض تواجد الطرفين المتحاربين وحركات جوبا الانتهازية في اي معادلة سياسية قادمة. قد يرى البعض ان هذا التصور الاستراتيجي طموح وغير واقعي، ولكنه غير ذلك تماماً، وهو واقعي كواقعية ثورة ديسمبر المجيدة ، التي لم يتوقع البعض حدوثها وكانوا يجهزون انفسهم لخوض انتخابات ٢٠٢٠ الانقاذية الوهمية. فالشعب قادر والثورة منتصرة بإذن الله. وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله!!! ٣٠/٨/٢٠٢٤
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة