"لذكرى السياسيين والنقابيين الذين تعرضوا للتعذيب والقتل من قبل الأنظمة العسكرية المستبدة التي ظلت تحكم السودان لأكثر من خمسين عام"
توطئة: مبدأ سيطرة المدنيين على الجيش ببزوغ فجر الديمقراطية الليبرالية في الغرب (في اعقاب الثورتين الأمريكية والفرنسية)، نشأت فكرة سيطرة المدنيين على الجيش. وفكرة سيطرة المدنيين على الجيش تنبع من أن قرار الحرب سياسي. فرغما من ان تنفيذ الحرب يمثل المهمة الأساسية للجيش لحماية الدولة من الاعتداء الخارجي ولتأمين حدوده البرية ومياهه الإقليمية ومجاله الجوي، الا ان قرار اشعالها لا بد أن يكون وراءه هدف سياسي عبرت عنه مقولة كلاوزفيتز "ان الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى". فمثلا الدستور الأمريكي أقر بأن الكونغرس الأمريكي له الحق الأصيل في إعلان الحرب. وهكذا، ظلت فلسفة السيطرة السياسية (المدنية) على الجيوش يستدعيها المبدأ الديمقراطي الذى على ضوء ديناميته تتحدد القوى السياسية التي تحكم الدولة. ان الحرب ليس فقط خطط واستراتيجيات عسكرية، ومدافع ومدرعات، بل هي قرار سياسي يتوجب اخضاعه كأي قرار سياسي لدراسة كل جوانبه ويجئ اصدراه وادارته بالشكل الديمقراطي الذى يختاره الشعب؛ ولهذا فهي وفق كليمنصو، رئيس الوزراء الفرنسي، الذى قاد فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى” أخطر من أن يترك قرارها لجنرالات الجيش“.
وحتى الآن لا يزال التزام الديمقراطيات (الليبرالية) بالمبدأ الخاص بالسيطرة المدنية على الجيش صامدا. لكن في الدول المتخلفة، التي تتميز باقتصادات شديدة التخلف، فقد ظل يجرى استخدام الجيش منذ أربعينات القرن المنصرم في الوصول الى السلطة السياسية واستدامة الاحتفاظ بها. فالدول الاستعمارية من أجل تحيق الأرباح، أخضعت البلدان المتخلفة لتكون مصدرا للمواد الخام والعمالة الرخيصتين واسواقا لتصريف السلع؛ ولوجود تناقض شديد العدائية بين القوى الاستعمارية وممثليها المحليين ( الكمبرادور) مع قطاعات الشعب العريضة، فالسلطة العسكرية الأوتوقراطية تمنح أصحابها استخدام أقسى أنوع التسلط السياسي لتسهيل الهدف الاستعماري في السيطرة على البلدان المتخلفة.
المقال خلال الحرب الحالية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع (مليشيا الجنجويد) من جهة، وبين الشعب والمليشيا من جهة أخرى، ظل بعض العسكريين في السودان يذيعون ان الذين يهاجمون الجيش ما هم الى مجموعة من الخونة. والآن لم يُفوّت هؤلاء العسكريين ذكرى الاحتفال بالعيد السبعين لسودنة الجيش السوداني في 14 أغسطس 1954 ليعيدوا على مسامعنا مآثر الجيش السوداني وأن مصير البلاد، من ناحية استقرارها ونهضتها، يقع حصريا علي عاتقه. وهؤلاء العسكريون يخاطبون الناس، بملابسهم الرسمية وبشكل مناقض لطريقة عمل الجيش المتسمة بالانضباط التراتبي، من خلال "لايفات" الانترنت ما يؤكد أن ظهورهم الإلكتروني المتواصل يتم بتوجيه من رؤسائهم مع ملاحظة بان التواصل السياسي بين المكون العسكري الحاكم والشعب، عبر القنوات الرسمية والقومية وغيرها من صحف واذاعات وصحف، منقطع تماما!! كما ان محتوى هذه "اللايفات" العسكرية يميل لتبنى الخطاب الديني لنظام الإنقاذ البائد الذى يحتوى على انتقادات مبطنة لثورة الشعب في 2018 على النظام الإنقاذ.
إن النظرة الموضوعية لدور الجيش في مسيرته في حكم السودان الذى امتد لأكثر من خمسين عام تشير الى ان سنوات حكمه (الأوتوقراطي) اتسمت بإدارة البلاد بأسلوب أعاق تطورها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بالمحافظة على الوضع السائد (status-que). ففي 14 أغسطس 1954 خرجت نواة الجيش السوداني من رحم "قوة دفاع السودان" التي تم تكوينها في اواخر العام 1924 بعد سلخها من الجيش المصري في اعقاب انقلاب الانجليز على مصر التي كانت تشاركهم استعمار السودان. ومنذ تاريخ تكوينها، تم ترويض "قوة دفاع السودان" لتكون قوة مسلحة في حماية النظام السائد حيث ظلت في أداء هذا الدور خلال الفترة الممتدة من وقت ثورة 1924الى ان مُنح السودان حق تقرير المصير والحكم الذاتي في1953. وفي 17نوفمبر 1958م بعد عامين فقط من استقلال البلاد صعد الجيش عن طريق الانقلاب العسكري للسلطة السياسية واستمر يحتكر القرار السياسي لمدة 57 عاما ( بالأخذ في الاعتبار السيطرة الكاملة للجيش على الدولة منذ 2019 وحتى الآن بعد انقلابه على انتفاضة الشعب في ديسمبر 2018 التي أدت الى الإطاحة بنظام الإنقاذ)؛ وفترة حكم الجيش تخللتها فترات قصيرة من الحكم المدني قضى عليها الجيش وأعاد سلطته بالانقلاب العسكري في مايو 1969 ويونيو 1989 .
وهكذا، على عكس أصحاب التفكير البرجوازي الصغير الذى ينزع للتجريد الساذج افي تعريف مفهوم الجيش بالنظر اليه كقوة مهنية موحدة تحتكر السلاح الرسمي تقف على الحياد فوق الصراع الاجتماعي/السياسي المتناقض (irreconcilable) الجاري في السودان، فان سلطة الجيش تأتى تعبيرا عن مصالح القوى الاجتماعية صاحبة النفوذ في الساحة السياسية. وكما في باقي دول العالم المتخلفة التابعة ، الموبوءة بالانقلابات العسكرية، فحكم الجيش تقضيه ضرورة المواجهة العنيفة ، بحكم اوتوقراطي، للتناقض المتسم بالعدائية المفرطة بين الشعب والقوى الخارجية التي تسعى لأحكام سيطرتها غير المباشرة على تلك البلاد.
بلغت تقوية وضع القرار السياسي في يد الجيش، المتطاول حكمه، قمتها في 2019 اثر صعود الجنرال عبد الفتاح البرهان للسلطة في اعقاب سقوط نظام الإنقاذ والقضاء على ثورة الشعب التي أطاحت بنظام لإنقاذ. وعبر انقلابه العسكري في 2021 ، الذى أطاح بمجلس الوزراء الذى تشكل في اعقاب زوال نظام الإنقاذ، انفرد الجنرال البرهان بالسلطة السياسية بالاشتراك الوثيق مع قوات الدعم السريع التي دعمها بتوسيع مهامها وتقوية شوكتها بشكل انفرادي بمعزل عن هيئة الاركان والمكون العسكري في مجلس السيادة. وهكذا، عُززت قبضة الجيش على كل مفاصل السلطة سياسيا واقتصاديا وتزايد تحكمه بشكل كامل في السياسة الخارجية.
ان النزاع المسلح الذى اندلع في ابريل 2023 بين الجيش ومليشيا الجنجويد يرجع الى خلاف الكيانين المسلحين حول المشروع الاستعماري (الاتفاق الاطارى) الذى صممته آلية ثلاثية تتكون من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيقاد)، ولجنة رباعية تشكلت من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهو مشروع كان الغرض من ورائه الهيمنة الكاملة على السودان. لهذا فقد انحصر التنازع حول مسائل تنظيمية تتعلق بالموقف من " الاتفاق الاطارى" كتمثيل القوى السياسية المختلفة في الاتفاق الاطارى ، ومواضيع إجرائية أخرى ، ولم يكن (النزاع) يدور حول رؤى جديدة مغايرة للتوجه السياسي/ الاقتصادي القديم الذى طالما تبنته الأنظمة السابقة ، بما فيها الحكومة الانتقالية التي احتضنت التوجه النيوليبرالى المتضمن بالضرورة في “الاتفاق الاطارى”. وخلاصة القول، فان النزاع بين التنظيمين كان دافعه الاستحواذ على القرار السياسي النهائي في الدولة.
وقف الشعب ضد الدعم السريع في قتاله ضد الجيش. ومقاومة المواطنين للمليشيا جاءت بعدما وجدوا أنفسهم في مواجهة دموية مباشرة معها اثر احتلالها لمنازلهم والتنكيل بهم وهتك أعراضهم والاستيلاء على أمتعتهم وأغراضهم.
لكن، في نفس الوقت ، لم يخف الشعب مقاومته للسلبيات الخطيرة للجيش المتعلقة بإدارته للحرب والدولة. ففي ظل قيادة الجنرال البرهان لم يعد هناك وجود للجهاز التنفيذي؛ فمنذ انقلاب 2021 واثناء الحرب تعطلت معظم أجهزة الدولة التي تدار بحكومة مكلفة ( ما عدا الوزراء الذين يمثلون الفصائل المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام). ورغما عن هذا الوضع، لم يتوان الجنرال البرهان في وضع الحكومة المكلفة تحت إشراف جنرالات المجلس السيادي، وبهذا يكون قد تم سحب المساحة الضئيلة من النفوذ الذى تتمتع به الحكومة باعتبارها "مكلفة". كما توقفت معظم الاعمال الخاصة وظل المواطنون لا يستطيعون الحصول على أبسط الخدمات اما لعدم القدرة المالية أو لتوقف تقديمها تماما. "وتعطلت لحد كبير الخدمات البنكية التي يُعتمد عليها في تسيير المعاملات التجارية اليومية وتمويل النشاط الإنتاجي. وتُرك المواطنون غارقون في ظلام واقع لم يعد فيه وجود لأى جهة تهتم باحتياجاتهم فيما يتعلق بشئون معاشهم وسير حياتهم."
"وعلى الصعيد العسكري لا يدرى احد أسباب تطاول أمد القتال ولماذا لا تطلق يد الجيش بشكل واسع للتحرك لقتال المليشيا وما هو التفسير لانسحاباته من بعض المواقع غير المبررة، كما لا توجد أي مخاطبات توضح للشعب مسار الحرب ومآلها ومصير الملايين المهجرة داخليا وخارجيا. كذلك لا يدرى أحد شيئا عن فحوى الزيارات المكوكية التي يقوم بها الجنرال البرهان لبلدان العالم على خلاف التقليد المتعارف عليه أن يجرى تنوير حول، مثل هذه الاتصالات الخارجية، كما تملى الضرورة. كذلك لم يعقد الجنرال البرهان مؤتمرا صحفيا واحدا يجيب فيه على أسئلة المواطنين منذ بداية القتال.
وكان ملفتا ان يحاضر أحد العسكريين، الذين ذكرنا أعلاه اعتيادهم مخاطبة الناس من خلال فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي، قائلا ان المقاومة الشعبية ضد الهجمة المسلحة على السودان من قبل مليشيا الدعم السريع والدول الخارجية التي تزودها بالعتاد العسكري وتقدم لها الدعم اللوجستي، لا يمكن أن تكون فاعلة اذا لم تخضع للعمل في اطار الجيش النظامي. وهذا صدى لما ظل يعلنه جنرالات المكون العسكري الحاكم من ان المقاومة الشعبية، التي اعلنها الشعب بعد ثمانية اشهر من نشوب الحرب لحماية نفسه والدفاع عن أمنه بعد أن أصابه اليأس من البطء في عمليات الجيش العسكرية، يجب ان تعمل تحت توجيهات القوات المسلحة والعمل وفق تراتيبيتها. فالعسكريون في مجلس السيادة عملوا على وقف اتساع المقاومة الشعبية واحتوائها وربطها تنظيميا بالجيش بوضعها تحت ادارته وخضوعها لقوانينه خوفا من اتساعها وتحولها لقوة مناهضة للتوجه السياسي لقيادة الجيش التي فشلت في إدارة الدولة والدخول في مواجهة حاسمة مع الدولة الشريرة التي تدعم المليشيا في تدميرها للسودان.
لكن التصور الذى لا يرى أي دور للمقاومة الشعبية في التصدي للتدخل المسلح الخارجي، الا من خلال تبعيتها تنظيميا للجيش النظامي، لا يعكس الحقيقة. فالتدخلات الخارجية العسكرية في الدول المتخلفة، لما لها من القوة، لا يمكن مواجهتها الا بأسلوب الحرب الشعبية التي تعتمد على الدعم الشعبي الواسع وباندماج الجنود مع الشعب في جسم عسكري واحد تكون الصورة واضحة له فيما يتعلق بالهدف من القتال، وفى حالة الدول المتخلفة فالهدف يمثل التحرر من الهيمنة الاستعمارية (مباشرة وغير مباشرة) وإنجاز التحرر من التبعية الاقتصادية التي تكبل تطور القوى المنتجة. وهذا التصور تدعمه (كأسلوب عام) احداث التاريخ ومنها أمثلة ساطعة في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة