(١) يتساءل البعض عن اسباب موافقة مليشيا الجنجويد المجرمة على المشاركة في مفاوضات جنيف ، بالرغم من ان المفاوضات ترمي لوقف اطلاق نار قد يمنعها من التوسع واحتلال مزيد من المناطق، وربما القضاء على حكومة الأمر الواقع التي تتقلص مساحة سيطرتها يوما بعد يوم. فالميدان يوضح التفوق العسكري لهذه المليشيا المجرمة، وقدرتها على محاصرة وإسقاط المدن والسيطرة على قيادات الجيش المختطف واحدة تلو الأخرى. لكن الناظر لخارطة هذا التوسع، لا يعوزه التحقق من الفشل الذريع لهذه المليشيا المجرمة في ادارة المناطق التي سقطت تحت يدها أو تكوين إدارة مدنية فاعلة لها. فهي اما ان تقوم بتهجير المواطنين عمدا من المناطق التي تحتلها، او ان يقوم المواطنين بالخروج من هذه المناطق التي تصبح الحياة فيها غير آمنة بسبب سلوك المليشيا وقصف الجيش المختطف. ومن يتبقى منهم ، يعيش معاناة توفير احتياجاته الأساسية وغياب الامن الشخصي ومخاطر فقدان حياته. لذلك نرى نزوح المواطنين لمناطق الجيش المختطف الامنة نسبيا ، ليس لأن الأوضاع فيها جيدة، بل لتفادي النهب المباشر والترويع الذي تمارسه المليشيا ، التي لا تستطيع توفير الغذاء وتقوم بتدبير سلسلة الامداد المدني وتوقف العملية الانتاجية. فالمليشيا المجرمة التي أسستها الحركة الإسلامية كأداة للقتل والنهب والترويع لاستخدامها ضد خصومها، ليست لديها الرغبة ولا القدرة ولا الخبرة في تحمل عبء الادارة المدنية للمناطق التي تحتلها، والتي تتحول إلى عبء عليها يعيق انتشارها وتقدمها العسكري. وهذا هو أحد الأسباب التي تدفع المليشيا المجرمة للقبول بالذهاب إلى مفاوضات جنيف ، التي ترمي إلى فتح الممرات للمساعدات الإنسانية التي تمنع حدوث مجاعة واسعة وتغيث المواطن المغلوب على أمره، ليس حبا في المواطن، بل رغبة في التخلص من عبئه. وهو احد الاسباب التي تمنع الجيش المختطف من المشاركة في المفاوضات، حتى يظل هذا العبء معلقا في اكتاف المليشيا المجرمة، بغض النظر عما يسببه من ذلك من خطر التعرض لمجاعة واسعة ومعاناة غير مسبوقة للمواطن، وليس بسبب ان الغرب يرغب في دعم المليشيا المجرمة نفسها بالسلاح والإمداد كما تدعي سلطة الأمر الواضح. ومفاد ما تقدم ، هو أن المليشيا المجرمة، تذهب إلى جنيف ، لنقل عبء إطعام من تبقى من سكان تحت إدارتها إلى المجتمع الدولي ، وتفادي تحمل مسئولية المجاعة القادمة حتماً، بعد أن قامت بتدمير العملية الانتاجية وسلسلة الامداد المدني. (٢) كذلك تذهب المليشيا المجرمة إلى مفاوضات جنيف ، لتكريس انتصارها العسكري عبر وقف إطلاق النار، الذي وإن كان يمنعها من التوسع عسكرياً، إلا أنه يقود إلى الفصل بين القوات ميدانيا وبقاءها حيثما هي متمركزة الان. وهذا يعني بقاء معظم البلاد في ايدي المليشيا المجرمة وتحت سيطرتها، واعترافا لها بإنتصار عسكري كبير على الجيش المختطف وسلطة الأمر الواقع، تسعى إلى استثماره في تحسين وضعها المستقبلي. ولا يفوتنا التنبيه إلى ان وقف إطلاق النار، يعفيها من مهمة صعبة هي السعي لاسقاط سلطة الأمر الواقع وسحقها. والصعوبة لا تتأتى من عملية الإسقاط والسحق نفسها - وهي صعبة بالطبع، ولكنها تأتي من ان هذا الإسقاط يضع المليشيا المجرمة في مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي، الذي يرفض رفضا حاسما تحولها إلى سلطة سياسية وابتلاعها للدولة، ويحرج كفلائها الإقليميين الذين يعلمون أنها ليست مؤهلة للتحول إلى سلطة معترف بها اقليميا ودوليا. فوقف إطلاق النار فوق أنه يكرس انتصار عسكري من الممكن رسملته لتحسين وضعها المستقبلي، يعفيها من دفع تكلفة الانتصار الكامل، ويعفي الدول الداعمة لها من حرج تحويلها إلى سلطة منبوذة، والأهم من ذلك يساعد في تركيب السلطة التي يرغب المجتمع الدولي في تركيبها لاحقاً، دون دخول المليشيا المجرمة في صدام معه او في حرج المسئولية عن ترتيب اوضاع هذه السلطة او التعاطي معها من مواقع سلطة أمر واقع مفروضة بقوة السلاح. فقبول الذهاب للمفاوضات لتحقيق وقف إطلاق النار، يحقق للمليشيا المجرمة نصرا دبلوماسيا، واعترافا دوليا اضافيا بدورها في الحدود المرسومة لها في خارطة الصراع، ويظهرها بمظهر القوى الحريصة على ايقاف الحرب على عكس الجيش المختطف ، ويكسبها تقدما بالنقاط يسمح لحلفائها المدنيين الموضوعيين بتسويق وضعها المستقبلي، وللمجتمع الدولي لفتح قنوات مباشرة معها لتمرير الاغاثة وفتح الممرات الإنسانية وتطبيع وجودها كقوى عسكرية في خارطة الصراع بإعتراف وتعاون دوليين. ويلاحظ أن هذا الذهاب للمفاوضات، يعزز موقف الدولة الاقليمية الراعية لها ايضاً، عبر قبولها كمراقب للمفاوضات، في اعتراف بتأثيرها ونفوذها على المليشيا المجرمة وقبول دولي لهذا التأثير والنفوذ ، واضعاف لموقف سلطة الأمر الواقع وشكواها ضدها لدى مجلس الامن. (٣) ايضا ذهاب المليشيا المجرمة إلى مفاوضات جنيف ، يعني خلق واقع جديد ، يوقف القتال بين الطرفين المتحاربين المختطفين للساحة السياسية ويسكت صوت البنادق ، ويسمح للمجتمع الدولي بتركيب حكومته وفرض سلطة الأمر الواقع التي يريد فرضها، والتي تعفي المليشيا المجرمة من الدخول في مواجهة مع المجتمع الدولي، وفي نفس الوقت تحفظ لهذه المليشيا وضعها وتسمح لها برسملة انتصارها العسكري. فالمجتمع الدولي ممثلا في المبعوث الأمريكي الذي يعكس موقف الادارة الامريكية وما ترغب في فعله مع حلفائها، اوضح وبصفة قاطعة دعمهم للسودانيين الذين لا يريدون عودة النظام القديم الذي تمثله سلطة الأمر الواقع في بورتسودان، كما لا يريدون استبداله بالمليشيا المجرمة، وأنهم يرغبون في سلطة مدنية. والسلطة المدنية التي ترغب الادارة الأمريكية، حتما ستتكون من القوى المدنية المنخرطة في مشروع المجتمع الدولي التي يتشاور معها هذا المبعوث . وهي قوى وقعت مع المليشيا المجرمة إعلان أديس ابابا، ومشروعها ما يزال دمج المليشيا المجرمة في الجيش المستقبلي بدلا من حلها. وهذا يعني ببساطة ان مفاوضات جنيف في حال نجاحها، سوف تفتح الطريق أمام وضع يؤسس لإعفاء المليشيا المجرمة من المحاسبة على كل الجرائم التي ارتكبتها، وقبول وجودها كقوى عسكرية خلال الفترة الانتقالية ولحين دمجها في الجيش الجديد، وحماية إمبراطوريتها الاقتصادية طوال الفترة الانتقالية ولحين الدمج على اقل تقدير، وطرد خصومها من السلطة وتفكيك سلطة الأمر الواقع في بورتسودان، والحفاظ على مصالح الدولة الكفيلة الراعية لها وللقوى المدنية التي تشكل حليفا موضوعيا لها، وقطع الطريق مجددا امام ثورة ديسمبر التي تطالب بحل المليشيا المجرمة ومنع تحقيق اهدافها. وهذا يعني بأن مفاوضات جنيف بالرغم من أنها لن تناقش الحل السياسي، إلا أنها تمهد الطريق لحل سياسي بكل تأكيد لأن وقف الحرب عملية سياسية لا يمكن فصلها مما سيأتي بعدها من واقع سياسي يفرضه توقف صوت البنادق ويؤسس له الوضع الميداني . والحركة الإسلامية المختطفة للجيش تعلم ذلك جيداً، وتعلم ان ذهابها إلى جنيف يعني التأسيس لواقع سياسي جديد ليس في مصلحتها بكل تأكيد، وأن الرابح في هذه الحالة هو مليشيا الجنجويد ومن خلفها ، بحيث يتأسس وضع مغاير تماما لما تريده هذه الحركة المجرمة، بمستوى يجعل إشعالها للحرب اللعينة الماثلة خسارة وحسرة وندم. (٤) ومفاد ما تقدم هو أن موافقة مليشيا الجنجويد المجرمة على الذهاب إلى مفاوضات جنيف ، تعني أنها قرأت الخطوة بشكل سليم ودراية واضحة لمآلات هذه المفاوضات في حال نجاحها، ومعرفة بأنها تشكل مخرجا ملائما لها من أتون هذه الحرب، يمكنها من تفادي تبعات الحرب والمسئولية عن الجرائم البشعة والقذرة التي ارتكبتها في حق الشعب السوداني، ويسمح لها بالحفاظ على جميع المكتسبات العسكرية والاقتصادية، ويحمي وجودها في واقع الحياة المستقبلية باعتراف دولي ورعاية كفيل اقليمي نافذ وراعي للقوى المدنية المنخرطة في المشروع الدولي، وضامن لمستقبل المليشيا المجرمة التي تحمي مصالحه وتعفيه مؤونة الجهد العسكري اللازم لذلك. فجنيف ستكرس سيطرة المليشيا المجرمة العسكرية على معظم أراضي البلاد، وتعلن هزيمة سلطة الأمر الواقع العسكرية عمليا، وتعفي المليشيا من مهمة توفير الغذاء في مناطق سيطرتها والمسئولية عن المجاعة الواسعة حال حدوثها ، وتفتح الطريق امام تركيب حل سياسي يفكك سلطة الأمر الواقع في بورتسودان، ويحمي استمرار المليشيا المجرمة ويمنحها غطاء سلطة مدنية لن تسائلها عن الجرائم، ويضمن استمرارها كإمبراطورية عسكرية ومدنية لحين دمجها في الجيش الجديد الذي سيكون لها يد عليا فيه بحكم أنها الطرف العسكري المنتصر. وكل هذا يتم عبر تجاهل الشعب السوداني وقواه الحية صانعة ثورة ديسمبر المجيدة، وفي اصرار واضح تغييبه، ظنا بأن أوضاعه الحالية التي صنعتها الحرب كافية لتمرير مثل هذا المشروع، وجهلا بأنه قادر على قلب الطاولة مجددا واجتراح المعجزات. فهو يعلم ان المطلوب لخصه شعار ثورة ديسمبر المجيدة " الثورة ثورة شعب والسلطة سلطة شعب والعسكر للثكنات والجنجويد يتحل" . ويا ثوار ثورة ديسمبر المجيدة وقواها الحية اتحدوا! وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله !! ١٩/٨/٢٠٢٤
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة