على ضوء موقف معلن سابق للأستاذة عواطف محمد عبد الله بعدم رضائها عن عزوف المسئولين السودانيين من نقل رسائلهم عبر الوسائط الإعلامية المحلية، يبدو ان اللقاء، الذى أجرته مع الجنرال ياسر العطا عضو مجلس السيادة، في أغسطس الماضي، حدث نتيجة لمجهود فردى حثيث ومثابر منها أجبر المسؤول المعنى لقبول اجراء المقابلة معه. لكن يظل، من دون أدنى شك، ان المكون العسكري، المهيمن على الحكم، يعمل على استدامة الوضع الحالي المتسم بالتعتيم الإعلامي الشامل من خلال مضايقة الإعلاميين من أداء مهمتهم وفرض القيود الجسيمة على وسائل الاعلام المحلية.
حول اللقاء نفسه، فان معظم ردود الجنرال شملت مسائل شخصية مثل العلاقة الاجتماعية بين الجنرالات الذين يحكمون البلاد. كما يثير اللقاء أسئلة أكثر ما قدمته الإجابات؛ فالإجابات جاءت بالصورة التي تجعل طرح أسئلة المتابعة مسألة ضرورية ومواتية. فمثلا، في نفس الوقت الذى ذكر فيه الجنرال العطا استلام الجيش لأسلحة جديدة، أضاف بانهم يقاتلون مجرد لصوص هم ما تبقى من الجنجويد؛ فاذا لم يتبق للجيش غير قتال مجرد حرامية، فما الداعي لذكر موضوع الاسلحة الحديثة. ومثال آخر هو ما ذكره العطا من ان الجنرال البرهان، رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش السوداني، ذكر له "في مجرى ونسه" رغبته في التنحي وترشيحه للجنرال شمس الدين الكباشى ليحل محله؛ فهذا التصريح كان يمكن للمحاورة استغلاله لاستجواب ضيفها حول الطريقة التي تدار بها الدولة، وما السبب الذى يدفع بالجنرال البرهان التنحي وسط الدمار والخراب الذى لحق بالدولة السودانية- الخ. فأي حديث عن تنحى الجنرال البرهان يثير في ذهن الموطن كيف تم تحت قيادته (البرهان) توسيع قوة مليشيا الدعم السريع وإدارة الحرب بالطريقة التي لا تتعارض مع رغبة بعض الجهات الخارجية في السيطرة على السودان بعد احالته لحطام؛ هذا باعتبار أدلة تشير الى أن البرهان شخص مُساوَم (compromised)-"عرضت هذه الأدلة في مقال بعنوان " الجيش والحرب ضد أشقياء الجنجويد – مقدمة"
باختصار، ان الأسئلة التي طرحت في اللقاء، بالإضافة الى شح أسئلة المتابعة، جعلت نتيجة اللقاء تنقصها الإجابات على مسائل كثيرة تدور في اذهان المواطنين حول ما يجرى في الساحة على الصعيدين العسكري والسياسي؛ وهذه المسائل ذات أهمية قصوى بالنسبة للموطن ظلت تشغل باله خاصة ان المكون العسكري في السلطة اختار حجب أي معلومات عنها، وإن تعدادها أدناه يقف دليلا على أن حصيلة اللقاء مع الجنرال العطا لم تكن ولا حتى مجرد خطوة تزيل التعتيم الذى يفرضه على الساحة عدم شفافية السلطة السياسية العسكرية. وتلك المسائل هي: - لماذا لا يستدعى السودان جنوده من اليمن. - لماذا تم منع تسليح الشعب لحماية نفسه من الجرائم التي ترتكبها مليشيا الجنجويد ضده. - مصير السودانيين في دول الجوار وخاصة في مصر واثيوبيا والاحوال السيئة التي يعيشون فيها وانتهاك حقوقهم . ان اللاجئين السودانيين في أثيوبيا يعيشون في أحرشها وتركتهم السلطات الاثيوبية عرضة لانتهاكات جسيمة من المجرمين والعصبات. - أسباب البطء في العمليات العسكرية. - الموقف من تواجد السفير الإماراتي بالسودان باعتبار الشكوى المقدمة ضد حكومته في مجلس الأمن. - عدم وجود حكومة تنفيذية بصلاحيات كاملة. - حقيقة الكميات المعتبرة من الذهب التي تصدر حاليا لدولة الامارات المعتدية على السودان. – التصرف الأحادي لوزير المالية في مسائل كبيرة مثل الضرائب، التي في الدول التي يوجد فيها تمثيل ديمقراطي، تحسم بمشاركة واسعة من الشعب عبر ممثليه في الجهاز التشريعي. - الأسباب حول عدم وضوح سير الاتصالات والعلاقات الخارجية. الخ، الخ ------------- اختار الجنرال العطا ان تتضمن افاداته في اللقاء المذكور الحديث عن مفهوم "الأمة" واسقاطاته على السودان. لكن أي حديث، في السودان، عن مفاهيم مثل "القومية"، او "الامة" يجب أن يتم على خلفية أن حكم الجيش واحتكاره للقرار السياسي، الذى امتد لحوالي ثلاثة وخمسين عاما، لم يساعد في خلق كيان اجتماعي واحد.
ان تعريف مفهوم "الأمة" الذى اختزله الجنرال العطا في قول بسيط، لا يستحق التعليق عليه؛ ولكن اثارة الموضوع في حد ذاته الذى يتعلق، في آخر التحليل، بشعور الشعب بالانتماء والعيش المشترك بين أفراده يستحق كتابة بضع كلمات حوله وما يعنيه لنا في السودان.
ان تعريف مفهوم الامة تناوله علماء الاجتماع والسياسة منذ القرن السادس عشر من وجهات نظر مختلفة: فهناك الأفكار القائمة على أساس التحليل الاجتماعي/ الطبقي الذى أضاف لمفهوم "القومية" ووسعه لكى يدل على شمولية الروابط الاجتماعية/الاقتصادية في المجتمع؛ كما توجد المقاربات المبنية على العوامل الثقافية.
إن مفهوم الامة، في المجتمعات الطبقية، يأتي متماهيا(identified with) مع مصالح الطبقة الحاكمة: مصالح الامة وسماتهاهي مصالح وسمات الطبقة السائدة. وتاريخيا، تزامنت نشأة مفهوم الدولة القومية مع انتصار راس المال على الاقطاعية الذى تطلب تمركزه ان يطابقه تمركزا سياسيا (الدولة القومية) يرعى الملكية الجديدة لوسائل الإنتاج. وهكذا، فان المصالح القومية في الدول الصناعية أصبحت هي نفس مصالح البرجوازية.
في السودان تمركز القرار السياسي في يد الجيش في شكل حكومات اوتوقراطية دمرت الحياة السياسية وأعاقت أي سعى للشعب لتحقيق الوحدة بين أفراده لنيل استقلاله القومي الذى سلبته منه هيمنة الدول الخارجية بتغولها على سيادة البلاد. وهيمنة الدول الخارجية على البلاد سهلته الحكومات العسكرية التي ظلت تبدئ، خلال حكمها الممتد، استسلاما كاملا للسيطرة الاستعمارية غير المباشرة، بلغ ذروته اثناء الحكم الانتقالي الذى اعقب سقوط نظام الإنقاذ في 2019. ففي تلك الفترة التي هيمن الجيش فيها على السلطة السياسية، جرى الاستسلام الكامل لشروط مؤسسات التمويل الدولية وإلغاء قانون مقاطعة إسرائيل القائم منذ عام 1958 واتخاذ الخطوات الاولية للتطبيع مع نظام "الأبارتيد الصهيوني".
وهكذا، فيما يتعلق بالدولة السودانية فان مهمة الشعب هي مواجهة السيطرة الخارجية وعملائها المحليين وتحقيق الدولة المستقلة التي تصون حقوقه، أي تحقيق الدولة الوطنية التي يتمتع فيها الشعب بكامل حقوقه الديمقراطية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة