حقيقة لا أدري ما الأمر الجاذب في الادعاء بأن كثير من الأنبياء بعثوا في سوداننا بحدوده الإدارية هذي؟!! سوى أن الأمر لا يعدو كونه شوفينية سودانية ..إن لم تك لوثة ما ..معاذ الله !! ...خاصة أن الرسل و الأنبياء عادة لا يبعثون إلا لقوم فسقة كفرة ..ثم تحل اللعنة على أرضهم غالبا ..أو يرشدون ويرحمون .. فترى ..كم لعنة لعننا حتى الآن ؟!!
رجاء ، بطلوا دروشة ..وما تحرجونا أمام( الأمم المتحدة) على قول الممثل عادل إمام . وتاريخنا القديم بالذات مشرف من كل النواحي ولايحتاج إلى النجر و القشرة بتاريخ مستعار من (الأمم الملعونة ..وتلك التي زورت كتبها ) حسب القرآن الكريم. مع أنني لا أستبعد بالطبع (من ناحية عقيدة)، كون أن المولى عز وجل قد بعث عدد لا نعلمه من الرسل ، بل يعلمهم الله وحده، فذكر بعض منهم في الكتاب وذكر تفصيل قومهم ومناطقهم ،ولم يذكر بعضهم ( كما ورد في القرآن الكريم). كما أنني قبل أن أدلف إلى التناول التاريخي المنهجي المعتمد على المصادر التاريخية الموثقة ، أود أن أنبه إلى : * أن مناهج علم التاريخ لا تعتمد على الكتب المقدسة أو الروايات الدينية لإثبات صحة عقيدة ما ..وكذلك لا تعتمدها كمصدر لاستقاء التاريخ إلا فيما يتعلق ( بالقاء بصيص من الضوء على شكل المسرح التاريخي للحقبة موضوع الدراسة). * وذلك كون الكتب المقدسة ( خاصة القرآن) لم تطرح نفسها كمصدر للتاريخ ..بل تناولت بعض الأحداث التاريخية والمستقبلية..بهدف استقاء العبر أو الوعظ والإرشاد. * كذلك من المهم أن يعرف الجميع أنه لم يتم اكتشاف أي أثر لأي نبي من الأنبياء والمرسلين حتى اللحظة، بل حتى العلماء الذين يبحثون التاريخ الديني والذين يعرفون ب(علماء الآثار اللاهوتيين)، لم يتمكنوا من ذلك ،وأي إدعاء سوى ذلك لم يتم إثباته علميا . وذلك يتعلق أيضا (بالآثار والأضرحة التي تنسب لآخر لأنبياء والمرسلين النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآل بيته وصحابته، في مكة والمدينة المنورة. مع أنها تعتبر أكثر مصداقية (علميا).. وذلك نسبة لقرب العهد التاريخي بالنسبة لبقية الأنبياء ). ..... إلى المقال التاريخي .. السودانيون ، وموسى وقومه ، ومعطيات التاريخ :
تزايدت في السنوات الأخيرة كتابات سودانية وكذلك تسجيلات وادعاءات من بعض أقلام غير المتخصصين في علمي التاريخ والآثار..بل كذلك بعض حملة الألقاب العلمية الرفيعة ولكن غير المتخصصين في علوم التاريخ والآثار ..ولا حتى علوم اللاهوت المقارن .. يزعم هؤلاء بقطعية وثوقية عجيبة كأنه نزل عليهم وحي إلهي بها .. أن سيدنا موسى عليه السلام من أصل سوداني ، وأن فرعون موسى (كذلك ) من أصل سوداني، وأن أحداث قصة الخروج كلها حدثت ضمن حدود السودان (الحالي) ، بل أن البحر الذي عبر به قوم موسى هو نهر النيل ( ضمن حدود السودان الحالي) لا سواه !! وليس هذا فحسب ، بل تزعم هذه الأسطورة الحضرية المعاصرة أن (كللل) الأنبياء عليهم السلام ينحدرون من جذور سودانية لا غير !!
وبما أن لكل شعب أساطيره الحضرية المعاصرة ، إلا أن هذه الأسطورة بالذات حساسة للغاية أولا : كونها تخالف كل ماهو متفق عليه من تفاسير دينية وتاريخية . ثانيا : لا تقوم على ساقين ..ولا تستند على مرجعيات تاريخية وآثارية وجغرافية ولاهوتية بتاااتا ... لا تستند على شئ سوى الأماني ..! وبالتالي تعرضنا هذه الأسطورة لسخرية القراء والمتابعين من الدول الأخرى ..كما حدث حين تبناها وزير الإعلام السوداني الإنقاذي نفسه !!
لذا صار لزاما علينا كمتخصصي تاريخ أن نتتبع قصة سيدنا موسى وقومه (بالذات) في المراجع والمصادر التاريخية المتوفرة لدينا ..رغم ندرة ظهور ملامح هذه القصة فيها..بل حتى عدمها ! ولكن هكذا اقتضت الضرورة ..أن نتتبع أقرب فرضيات ممكنة ومعقولة ولها سند تاريخي ..كي لا نكون قد صمتنا عن هذه الخرافات التي صارت تروج بغير أسانيد منطقية سوى أمنيات أصحابها ..وتسبب لنا حرجا إعلاميا بالغا ..ورهقا علميا بغير أساس ! ولا نستبعد إن استمر الأمر بهذه الوتيرة ..أن نجدها في مناهج التاريخ التي تدرس لطلبة الأساس ..كما وجدت غيرها من أكاذيب ! ... العبرانيون ، من هم ؟
لقد حار المؤرخون والأثاريون غاية الحيرة في تحديد شخصية فرعون الخروج الذي ورد في قصة سيدنا موسى عليه السلام و التي وردت في الكتب المقدسة ( الكتاب المقدس -العهد القدبم، والقرآن بالطبع ) ، هذا عكس خصومه العبرانيين الذين تعددت المصادر التي تشير إليهم ..أو إلى مجموعات تشبههم جفرافية ومسمى .وطبعا كان البحث عبر المنهجية التاربخية التي تعتمد على الآثار والمراجع والمصادر ووسائل وأدوات البحث المعروفة ، فالبحث التاريخي علم منضبط له قواعده وأصوله وليس أمرا هينا ولينا أبدا كما يستسهله بعض الذين لا يمتلكون أدواته ومنهجيته ..ومع ذلك يتصدون له بثقة وغرور عجيبين !!
فماهي المعطيات الآثارية والتاريخية التي بين أيدينا .. وربما تكون لها علاقة بهذه القصة الدينية ؟
* مصادر أولية : 1- أول ذكر للعبيرو في الوثائق الكمتية (المصرية ) كان في عهد الفرعون أمنحتب الثاني من الأسرة الثامنة عشر ، يذكر في نص له إنتصاره على ملوك سوريا وأسره لمجموعات من السكان البدو من ضمنهم مئات من العبيرو أحضرهم معه إلى (كمت ) مصر القديمة . 2- ورد في أحد نصوص العام الثامن من حكم رعمسيس الثاني والذي جاء فيه ذكر منطقة «يزريل» عند حديثه عن المناطق جنوب فينيقيا. 3- وثائق تل العمارنة ( آخت آتون )، التي تشير إلى الفوضى التي أحدثتها مجموعات العابيرو في بعض المدن الفلسطينية . وذلك في عهد أمنحتب الرابع / أخنآتون. 4- لوح النصر للفرعون مرنبتاح الذي أشار إلى أنه قطع نسل ( يزرائير) . فيذكر السطر 27 من لوح النصر الذي يوثق لانتصار مرنبتاح الإبن الثالث عشر لرعمسيس الثاني ضمن حملة كنعان قائلا "دمرت يزرئير ولم يعد لها بذور". 5- نصوص أوغاريت الشامية التي تشير لمجموعات تسكن خارج المدن تسمى العابيرو . 6- رسائل مدينة ماري على الفرات الأوسط ، والتي تشير لمجموعتين من العبرو أو العابيرو ، المجموعة الأولى تسمى (بنو يامينا) أي أبناء الجنوب في اللغات السامية ،والمجموعة الثانية( بنو سمأل) أي أبناء الشمال . وقد لاحظ الباحثون الشبه بين إسم المجموعة الأولى وإسم السبط الثاني عشر من أسباط بني إسرائيل المعروف بسبط (بن يامين) . 7- وثائق بناء مدينة( بي- رعمسيس)،المتبادلة بين الفرعون ورئيس العمال ، وتتناول مجموعة من العمال العييرو الذين أشارت لهم المراسلات بلفظ (عبر ). 8 - وثائق معركة قادش التي تشير إلى نقمة رعمسيس الثاني من العبيرو واستعبادهم بعد عودته من المعركة لأسباب ربما تعود لأدوار لهم كادت تسبب هزيمته . ......
من كل ما سبق من إشارات تاريخية واضحة تشير لوجود قوم يسمون (بعبيرو وخابيرو وعبر) في بعض المصادر الكمتية والكنعانية والعراقية من نقوش ونصوص وغيرها ، إضافة لإشارة لوح النصر لمرنبتاح لقوم يدعون يزرأين . وهذه المصادر الأولية حددت بما لا يدع مجالا للشك أن أصول هؤلاء القوم تنحدر من كنعان ( الشام ) . ويالتالي هم آسيويون وليسوا بكوشيين بطبيعة الحال ...حتى يثبت العكس ! ...... * من هو فرعون الخروج ؟ ربما لم بحتار رجال الدين كثيرا في تحديد فرعون موسى ، فوجود مومياء رعمسيس الثاني بحالة جبدة ، إصافة إلى الزمن الطويل الذي حكم فيه ( 67 عاما ، وتوفي عن عمر يناهز التسعين ) ،إضافة إلى بعض الشائعات بكون التشريح أثبت أنه مات غريقا( وهذا غير صحيح ). كل هذه أسباب ساعدت رجال الدين من مسلمين ويهود على الجزم وبوثوقية غير علمية ..على كون أن رعمسبس الثاني هو فرعون الخروج ! كمان أن إبنه مرنبتاح ناله ما نال والده من إتهامات ..نسبة لكلامه القاسي عن قبيلة تسمى يزرائر في لوحه الشهير . المهم ، أن الإتهامات حول هذا الأمر تحوم حول الأسرة التاسعة عشر الشهيرة بعهد الرعامسة العظماء . هذا رغم أن المؤرخين والآثاريين لم يقطعوا برأي في هذه المعضلة حتى اليوم ، وذلك نسبة لتوخيهم الدقة التاريخية وكون أن هنالك مناهج تحكمهم . وحقيقة لا يسعني هنا إلا أن أحذو حذوهم ، ولكن هذا لن يمنعني من طرح بضع المعطيات.. التي ربما تبدو كفرضيات تظل مجرد فرضيات حتى بتم إثباتها بالوسائل العلمية المعروفة ..بطبيعة الحال . أولا : رعمسيس الثاني وإنتقامه من العبيرو لأدوار خائنة لهم خلال معركة قادش ،وثم الإشارات التي تدل على تسخيره لهم في بناء مدينة (بي َ- رعمسيس ). ثانيا- لوح النص لمرنبتاح ، الذي يبدو كلامه فيه عن يزرأير وإشارته لقطع نسلهم كلاما إنتقاميا للغاية ، لذلك رجح بعض الباحثين أن مرنبتاح هو فرعون الخروج، ولكن الذي يبطل هذه الفرضية كونه حكم تسعة عشر عاما فقط. ثالثا : الفترة المضطربة التي أعقبت وفاة مرنبتاح في عصر الرعامسة ،والتي ظهر فيها فراغ في الحكم واضطرابات وإستقلال بعض المناطق ، ثم ظهور شخص غامض إسمه (آمون مس) وصف بكونه مغتصب للعرش ،حكم مدة من الزمان، ثم تبعته الملكة (تاوسرت)التي حكمت بمعاونة أحد رجال الدولة ذوي النفوذ وبسمى باي . وتذكر بعض المصادر أن زوج ( تاوسرت) الأول كان شقيقها (سبتاح) ، ثم توفي وخلفه (سيتي الثاني). . المهم عمت الفوضى كمت ( مصر القديمة) في تلك الفترة وقامت الملكة تاوسرت بمحاولة مسح نقوش بعض الفراعنة وتدمير توابيتهم ، الأمر الذي دفع بكهنة آمون إلى إخفاء كثير من توابيت الملوك والنبلاء الفراعنة . فمن هي تاوسرت الرعمسية ؟ ومن هو آمون مس ؟ ومن يكون باي وزير تاوسرت ؟ وما سبب الفوضى العظيمة التي حدثت بعد وفاة مرنبتاح ؟ أسئلة تستحق البحث حولها ، فربما يلوح ضوء آخر النفق ..يخرجنا من متاهة التوهمات واستسهال الرجم بالغيب الذي صار متفشيا في شأن أمر الرسل عليهم السلام .
---------- * المراجع والمصادر طي المقال . * الصورة المرفقة : نقش لوح النصر لمرنبتاح Image
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
آمنة أحمد مختار
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست