بقلم الدكتور/ محمود دقدق المستشار القانوني والباحث
الإصرار والتمادي الإسرائيلي في إرتكاب أبشع الفظائع والانتهاكات الجسيمة غير المسبوقة في قطاع غزة، بإستهداف البشر والحجر والشجر، والزرع والضرع، تحت شعار إلا أحد مأذون له بالحياة أو البقاء بكرامة، وذلك بحجة إخماد أنفاس حركة حماس وإهالة التراب عليها، لهو سلوك إسرائيلي متجرد من العقلانية، وممعن في الوحشية وضعف الرؤية السياسية، فالأفعال غير المشروعة التي اقترفتها إسرائيل أنتجت ما يناقضها، ووحدت وجدان العالم من حيث لا تدري، وذلك بعد أكثر من 76 عاماً من الظلم والقهر وسياسة الإفناء والتطهير العرقي، بدعم دولي دون سقف أو حدود. وفي مقابل هذا العنف اللا محدود جاءت ردود الأفعال الدولية ايجابية وقوية رافضة الحرب على غزة، وأن كانت اقل من هامة التضحيات التي قدمها أهالي غزة، فهي حركة دولية نحو الدعم الذي افتقدته القضية الفلسطينية منذ بداية الصراع، وقد رأينا إدانات دولية صريحة من دول لزمت الصمت ردحاً من الزمن، ووقفنا مؤخراً عند اعتراف ثلاث دول أوروبية مرة واحدة وهي إسبانيا وجمهورية إيرلندا والنرويج، حيث تم الاعتراف بالدولة الفلسطينية وسط التأييد غير المسبوق للقضية الفلسطينية على نهج يخالف ما كان عليه الحال منذ أمد بعيد ، مع بروز حديث جاد وعلني حول حول حل الدولتين، وذلك بالتزامن مع تحرك المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لتضييق الخناق على إسرائيل، في خضم التعاطف الكبير للقضية الفلسطينية في دول الغرب، ولأول مرة، خاصة في الجامعات ومراكز الوعي والاستنارة، مدعومة باحتجاجات طلابية واسعة في دول ظلت في الماضي وفية للدولة العبرية تحت كل الظروف. في المقابل ظلت حكومة التطرف اليميني الإسرائيلية أن الوحشية وحدها يمكن أن تقهر الشعب الفلسطيني ولكن ما حدث هو النقيض من ذلك، وانطبق عليها المثل القائل - على نفسها جنت براقش- حيث صمد الفلسطينيون على الاذي وعلى أكبر المجازر في تاريخ البشرية الحديث أمام مرأى ومسمع العالم ومنظماته العدلية والحقوق والأممية. حتى استيقظ الضمير الحي لدى بعض الشعوب، حيث تحركت جهات لم تكن محسوبة في هذا الصراع مثل الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية التي ألهبت مشاعر بقية الجامعات حول العالم، وضعت الدول الغربية أمام امرين لا ثالث لهما وهما، إما الانحياز إلى الإنسانية المجردة، أو السقوط الأخلاقي، فبدأت الدول التي ظللت صامتة لسنوات خلت، تدق ناقوس الخطر وتتخذ إجراءات فردية وجماعية صبت جلها في صالح القضية الفلسطينية، ويبدو أن الخطوة التي اتخذتها الدول الأوروبية بشأن الاعتراف بدولة إسرائيل ودعم قرارات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية على التوالي جاءت نتيجة للتهور الإسرائيلي الذي لم يترك أمام العالم أي خيار سوى الركون إلى الضمير الإنساني الذي يتأذى كثيرا من مشاهدة تلك المآسي والفظاعات، التي تجاوزت كل الحدود. على الرغم من أن هناك من رأى في هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر 2023 خطوة غير مدروسة أدت إلى رد فعل اسرائيلي عنيف وغير متناسب، إلا أن هذا القول مردود عليه بقراءة ردود الأفعال الدولية الايجابية وإن كانت اقل من هامة التضحيات الفلسطينية، وعلى رأس ردود الأفعال تلك، ذلك التأييد غير المسبوق للقضية الفلسطينية ولأول مرة، والاعتراف الجماعي بالدولة الفلسطينية وتحرك المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية والتعاطف الكبير للقضية الفلسطينية في دول الغرب، والحراك الطلابي في الجامعات ومراكز الوعي والاستنارة. بحيث تجاوز الحراك التجمعات الطلابية لتشمل أساتذة الجامعات والعاملين فيها والمجتمعات المحيطة. سوف يستمر التأييد للقضية الفلسطينية وتستمر الدول في الاعتراف بدولة فلسطين وسيكون هذا الاعتراف امتدادا لاعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 نوفمبر عام 1974، وفقا لقرارها رقم 3236 بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال الوطني، والسيادة. كما اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ومنحها مركز المراقب في الأمم المتحدة. واعتمدت الأمم المتحدة تسمية "فلسطين" لمنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1988 إيذاناً بميلاد دولة ناقصة السيادة، وبعد وقت قصير من إعلان عام 1988، تم الاعتراف بدولة فلسطين من قبل العديد من الدول النامية في أفريقيا وآسيا، ومن الدول الشيوعية ودول عدم الانحياز. وفي فبراير 1989، افاد ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بأن 94 دولة قد اعترفت بالدولة الفلسطينية الجديدة. وسعت دولة فلسطين بعد ذلك للحصول على عضوية العديد من الوكالات المرتبطة بالأمم المتحدة، لكن جهودها واجهت تهديدات من الولايات المتحدة بأنها ستحجب التمويل عن أي منظمة تقبل عضوية فلسطين، وعلى الرغم من وعثاء الطريق الدبلوماسي هذا حظيت فلسطين بعضوية بعض المنظمات الدولية نذكر منها؛ صفة المراقب بالأمم المتحدة، العضوية الكاملة في المحكمة الجنائية الدولية، المحكمة الدائمة لفض النزاعات، لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا ومنظمة الشرطة الدولية والعديد من المنظمات الدولية والإقليمية الأخرى. في تقديرنا أن الدول المتبقية التي لم تعترف بدولة فلسطين وعددها 48 دولة فقط من جملة 193 دولة، سوف تأتي فرادى وجماعات، للحاق بركب الدول الأخرى، وهنا نشير إلى أن الدولتان اللتان ليس لديهما عضوية في الأمم المتحدة وهما الجمهورية الصحراوية ( الصحراء الغربية) والكرسي الرسولي THE HOLY SEE ( بالفاتيكان) قد اعترفتا بالدولة الفلسطينية. وتبقى المعضلة في الكتلة الصلبة المناهضة لفلسطين وهي بريطانيا صاحبه وعد بلفور والولايات المتحدة الأمريكية اللتان قررتا السباحة عكس التيار الجارف، تساندهما ألمانيا وفي محاولة يائسة لغسل يديها من ماضيها بشأن المحرقة، أما اليابان، كوريا الجنوبية، أستراليا، كندا ونيوزيلندا وغيرها فسيكون موقفها مبنياً على المواقف الأمريكية عموماً. اليوم تعترف بالفعل اليوم نحو 145 دولة من أصل 193 دولة أعضاء في الأمم المتحدة بدولة فلسطين، بما في ذلك أغلب دول نصف الكرة الأرضية الجنوبي وروسيا والصين والهند. بعد أن توج في خطوة مثيرة في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي. المواقف الأوروبية من المواقف المشتركة على مستوى بروكسل إلى عواصم الدول الأوروبية مفردة مهدد اعترفت إسبانيا وأيرلندا والنرويج رسميا بالدولة الفلسطينية مؤخراً، مما عزز خطوة مشتركة تزيد من عزلة إسرائيل بسبب حربها ضد حماس في غزة. ومن الواضح إن أغلبية الدول في جميع أنحاء العالم أتجهت نحو ذلك، وأكدت من جديد هذا الموقف من خلال دعم قرار للأمم المتحدة بشأن الاعتراف بعضوية فلسطين في منظومة الأمم المتحدة، والذي تمت الموافقة عليه بدعم من 143 دولة. من جهة أخرى تسلط الخطوة الأوربية الجماعية هذه الخطوة الضوء أيضًا على مدى انقسام أوروبا بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ولكن من الصعب أن نحدد بشكل قاطع عدد البلدان التي تنظر إلى هذه القضية؛ على سبيل المثال، اعترفت بعض دول الكتلة الشرقية السابقة بالدولة الفلسطينية منذ عقود عندما كانت تحت الحكم السوفييتي، لكنها نأت بنفسها منذ ذلك الحين عن هذا الموقف كدول مستقلة. وفي صعيد آخر تعترف عشر دول من مجموعة العشرين بالدولة الفلسطينية، وهي الأرجنتين والبرازيل والصين والهند وإندونيسيا والمكسيك وروسيا والمملكة العربية السعودية وجنوب أفريقيا وتركيا، بالإضافة إلى إلى الضيف الدائم في المجموعة دولة إسبانيا، مما يعد انتصاراً مقدراً للقضية الفلسطينية. الخطوة التي تعقب هذا الاعتراف الدولي بحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة، هو حل الدولتين، الأمر الذي يجب أن يكون في طليعة مشاغل صناع السياسات الدولية، لإنزال حل الدولتين منزل التنفيذ على أرض الواقع إذا أراد المجتمع الدولي إكمال مسيرة الاعتراف بدولة فلسطين، كدولة ذات سيادة – لها حدود وحكومة وجيش – من شأنها أن تمنح شعبها صوتاً سياسياً ومكاناً خالياً من العنف والإضطهاد. بيد أن هذا لا يتأتى إلا بشحذ الهمم لتجاوز واقع النظام التوسعي الاستيطاني الاسرائيلي، وتحويلها إلى وصفة قانونية وسياسية تمهد الطريق لقيام دولة فلسطينية منفصلة عن دولة إسرائيل، دون مساس أو تقويض سيادة إسرائيل. دولة تتوج الأشواق الفلسطينية في حق تقرير المصير، على حدود الخط الأخضر لعام 1949، الحدود الأكثر واقعية للدولة المرتقبة. تلك الحدود التي رُسمت وفق اتفاقيات الهدنة بين إسرائيل وجيرانها في أعقاب حرب عام 1948، وهي الحدود الحالية بين إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة. من الجلي أن إسرائيل ابتغت من هجومها على غزة تطبيق ما جاء في كتاب الأمير لمكيافيلي "القيام بأي عمل لتحقيق هدف تقوية الدولة والحفاظ عليها، حتى لو كان مخالفاً للقوانين والأخلاق" لكن إنقلب السحر على الساحر، وسارت الامور كما يبدو نحو ميلاد عسير لدولة فلسطينية كاملة السيادة، بشرط أن يبقى الشعب الفلسطيني مؤمناً بالنزعة التفاؤليّة المسنودة بتوحيد فصائلها كشرط للوصول إلى دولة تخرج من رحم المعاناة، ومن تحت ركام القتل والتشديد والظلم والاضطهاد، وعندها ستكون هي الدولة التي سترى النور طال الزمان أو قصر.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة